علوم واسرار وعجائب الأمصار Headline Animator

السبت، 15 يونيو 2013

عش الزنابي-هيركيول بوارو الشهير


عش الزنابي


خرج جون هاريسن من المنزل ووقف على المصطبة الأمامية بعض الوقت ينظر الى الحديقة أمامه. كان رجلا ضخما ذا وجه نحيل شديد الشحوب. كانت سيماه عادة تميل الى الجهامة ولكن عندما ترق القسمات المتغضنة -كما هو الآن- فتصبح ابتسامة يصبح فيه شئ ما شديد الجاذبية.

لقد أحب جون هاريسن حديقته ولم يسبق لها أن بدت أفضل مما تبدو عليه هذا المساء الصيفي من شهر آب باعثة على الاسترخاء. لم تزل الورود المعترشة جميلة والبازلاء الحلوة تملأ الجو بعبقها.

صوت صرير مألوف تماما جعل هاريسن يدير رأسه بحدة. من هو القادم من بوابة الحديقة؟ بعد دقيقة على وجهه تعبير الدهشة التامة لأن هيئة الرجل المهندم القادم عبر ممر الحديقة كانت آخر ما يتوقع رؤيته في هذا المكان من العالم.

صرخ هاريسن: هذا والله عجيب, السيد بوارو!

وكان حقا هيركيول بوارو الشهير الذي طبقت شهرته الآفاق.

-
نعم. لقد قلت لي يوما: "ان وجدت نفسك يوما في هذا الجزء من العالم فتعال لزيارتي", وقد أخذت بجريرة كلمتك وجئت.

أجاب هاريسن بحماسة: وأنا ممتن لذلك اجلس واشرب شيئا.

وأشار الى طاولة على الشرفة فقال بوارو وهو يغرق في كرسي شبكي القاعدة: "أشكرك لا أظن أن لديك عصير فواكه محلى؟ كلا, لا أظن ذلك. قليل من ماء الصودا اذن, لا مشروبات كحولية". ثم أضاف بصوت حساس معبر بينما كان هاريسن يضع له كأس الصودا بجانبه: خسارة.. شاربان متهدلان! والسبب هو هذا الحر.

سأله هاريسن وهو يجلس على كرسي آخر: وما الذي جاء بك الى هذه البقعة الهادئة؟ المتعة؟

-
كلا يا صديقي, بل العمل.

-
العمل؟ في هذا المكان النائي؟

هز بوارو رأسه بالايجاب وهو متجهم الوجه ثم قال: نعم يا صديقي, فليست كل الجرائم ترتكب بين الحشود الغفيرة كما تعلم.

ضحك الآخر وقال: أظنها كانت ملاحظة بلهاء من طرفي. ولكن ما هي الجريمة المحددة التي تحقق فيها هنا, أم أن ذلك شئ يجب أن لا أسأل عنه؟

-
تستطيع أن تسأل, والحقيقة أنني أفضل أن تسأل.

نظر اليه هاريسن بفضول؛ فقد أحس بأن في أسلوب صديقه وطريقة كلامه شيئا غير عادي. بعدها تقدم بحديثه على نحو متردد بعض الشئ, قال: هل قلت انك تحقق بجريمة؟ جريمة جدية؟

-
من أكثر ما يمكن أن تكون الجرائم جدية.

-
ماذا تعني...

-
جريمة قتل.

وقد نطق بوارو هاتين الكلمتين بجدية بالغة جعلت هاريسن تأخذه المفاجئة. كان بوارو يحدق اليه مباشرة وأيضا كان في نظرته شئ غير عادي تماما بحيث لم يعد هاريسن يعرف كيف يستمر في الحديث. ولكنه قال أخيرا: ولكنني لم أسمع بأية جريمة قتل.

-
نعم, فأنت لم تكن لتسمع بها.

-
ومن هو القتيل؟

-
حتى الآن, لا أحد.

-
ماذا؟

-
ولذلك قلت انك لم تسمع بها. انني أحقق في جريمة لم ترتكب بعد.

-
اسمعني يا بوارو, هذا هراء.

-
أبدا. ان كان بوسع المرء أن يحقق في جريمة قبل حدوثها فان ذلك أفضل بكثير -بالتأكيد- من التحقيق بعد الجريمة. يمكن للمرء حتى أن يمنعها.

نظر هاريسن اليه ثم قال: انك لست جادا يا سيد بوارو.

-
بلى, انني جاد.

-
أتعتقد حقا بأن جريمة قتل سترتكب؟ آه, هذا سخيف!

أنهى بوارو الجزء الأول من جملته دون أن يلقى بالا لتعجب صاحبه: مالم نستطع أن نمنعها. نعم يا صديقي, هذا ما أعنيه.

-
نمنعها؟

-
نعم قلت: نمنعها نحن. فسأحتاج الى تعاونك.

-
ألهذا أتيت الى هنا؟

مرة أخرى نظر بوارو اليه ومرة أخرى جعله ذلك الشئ غير المحدد في نظرة بوارو يضطرب ويقلق.

-
جئت الى هنا يا سيد هاريسن لأنني.. حسنا, لأنني أحبك.

ثم أضاف بصوت مختلف كليا: انني أرى يا سيد هاريسن بأن لديك هناك عش زنابير. عليك أن تدمره.

أدى تغيير الموضوع بهاريسن الى أن يقطب جبينه بطريقة تلفها الحيرة. ثم تبع بعينيه نظرة بوارو وقال بصوت مذعور: أنا في الحقيقة سأدمره... أو بالأحرى سيدمره الشاب لانغتن. هل تتذكر كلود لانغتن؟ كان حاضرا في نفس دعوة العشاء تلك التي قابلتك فيها. انه قادم هنا هذه الليلة ليدمر هذا العش. يبدو شغوفا بعض الشئ بهذا الأمر.

-
آه, وكيف سيدمره؟

-
بالنفط وحقنة الحديقة. ولكنه سيحضر ابرته الحاقنة؛ فحجمها أكبر من حجم ابرتي.

-
ألا توجد طريقة أخرى؟ باستخدام سيانيد البوتاسيوم؟

بدا وكأن هاريسن قد فوجئ قليلا, وقال: بلى, ولكن تلك مادة خطيرة ومن المجازفة دوما الاحتفاظ بها في البيت.

هز بوارو رأسه موافقا ببطء وقال: "نعم, انه سم قاتل". تريث قليلا وردد مرة أخرى بصوت وقور: سم قاتل.

علق هاريسن ضاحكا: انه مفيد ان كنت تريد "تصريف" حماتك, ايه؟

ولكن بوارو ظل جادا, وقال: وهل أنت واثق يا سيد هاريسن بأن ما سيستخدمه السيد لانغتن في تدمير عش الزنابير هو النفط؟

-
واثق تماما, لماذا؟

-
انني أتعجب! لقد كنت عند الصيدلي في بارتشيستر عصر اليوم. وكان علي أن أوقع في سجل السموم مقابل احدى العقاقير التي اشتريتها ورأيت في السجل آخر مادة وآخر توقيع. كانت المادة سيانيد البوتاسيوم وقد وقع أمامها كلود لانغتن.

نظر هاريسن اليه وقال: غريب!... لقد أخبرني لانغتن أمس بأنه لم يحلم أبدا باستخدام هذه المادة والحقيقة أنه قال يجب عدم بيعها لهذه الأغراض.

أرسل بوارو ناظريه الى الحديقة. وكان صوته هادئا جدا وهو يطرح سؤاله: هل تحب لانغتن؟

جفل هاريسن؛ اذ بدا وكأن السؤال قد فاجأه على حين غفلة. قال: أنا... أنا... حسنا, بالطبع أحبه, ولماذا لا أحبه؟

-
قال بوارو بهدوء: كنت أتساءل فقط ان كنت تحبه.

ولما لم يجب هاريسن مضى بوارو قائلا: وقد تساءلت أيضا ان كان هو يحبك؟

-
ما الذي تريد الوصول اليه يا سيد بوارو؟ في عقلك شئ لا أستطيع سبر غوره.

-
سأكون صريحا جدا معك. انك خاطب, وستتزوج يا سيد هاريسن. وأنا أعرف الآنسة مولي دين. انها فتاة جميلة وفاتنة جدا وقبل أن تكون مخطوبة لك كانت مخطوبة لكلود لانغتن وقد تركته من أجلك.

هز رأسه موافقا واستمر بوارو: أنا لا أسأل عن دوافعها في ذلك فربما تكون لها مبررتها. ولكنني أقول لك ما يلي: ليس من المستكثر عليك أن تفترض بأن لانغتن لم ينس ولم يغفر ذلك.

-
أنت مخطئ يا سيد بوارو... أقسم أنك مخطئ. لقد تحلى لانغتن بروح رياضية وتقبل الأمر كرجل وقد كان شريفا معي الى حد مدهش... بذل كل ما بوسعه ليكود ودودا.

-
ولم يسترع ذلك انتباهك كأمر غير عادي؟ لقد استعملت تعبير"الى حد مدهش" ولكنك لا تبدو مدهوشا.

-
ما الذي تعنيه يا سيد بوارو؟

قال بوارو وفي صوته نبرة جديدة: أعني بأنه يمكن لرجل أن يخفي كرهه حتى يأتي الوقت المناسب.

-
كرهه؟

هز رأسه بالنفي وهو يضحك.

-
الانكليز أغبياء جدا؛ يعتقدون أنهم يستطيعون خداع الجميع وأن أحدا لا يستطيع خداعهم. هذا روحه رياضية, وهذا شاب طيب... لن يصدقوا أبدا وجود الشر فيه ولأنهم شجعان -رغم غبائهم- فهم أحيانا يموتون في وقت ليسوا مضطرين للموت فيه.

قال هاريسن بصوت منخفض: انك تحذرني. أنا أدرك ذلك الآن... أدرك ما حيرني طوال هذا الوقت. انك تحذرني من كلود لانغتن. وقد جئت هنا اليوم لتحذرني...

هز بوارو رأسه موافقا, فقز هاريسن واقفا وقال: ولكنك أنت المجنون يا سيد بوارو. نحن نعيش في انكلترا والأمور لا تجري بهذا الشكل هنا, فالخاطبون الذين تركتهم خطيباتهم لا يركضون في الشوارع طاعنين الناس في ظهورهم. وأنت مخطئ بخصوص لانغتن؛ فذلك الشاب غير مستعد أن يؤذي ذبابة.

قال بوارو بهدوء: حياة الذباب ليست موضع اهتمامي. ورغم أنك تقول ان السيد لانغتن غير مستعد لقتل ذبابة فانك تنسى أنه يعد العدة الآن لقتل عدة آلاف من الزنابير.

لم يجب هاريسن على الفور. ونهض بوارو بدوره وتقدم من صديقه ووضع يده على كتفه. كان بوارو ثائرا منفعلا حتى انه كاد أن يهز جسد الرجل الضخم وبينما كان يفعل ذلك همس بأذن صديقه قائلا: تغلب على غفلتك يا صديقي, تغلب على غفلتك. وانظر... انظر الى حيث أشير. هناك عند الحافة تماما قرب جذر الشجرة. انظر الى الزنابير وهي تعود الى عشها هادئة في نهاية النهار. خلال ساعة قصيرة سيحل بها الدمار وهي لاتعرف ذلك. ليس هناك من يخبرها.. ليس لديها -كما يبدو- أحد مثل هيركيول بوارو. انني أقول لك يا سيد هاريسن بأنني قد جئت الى هنا في عمل وان جرائم القتل هي عملي, وهي عملي قبل أن ترتكب بقدر ما هي عملي بعد ارتكابه. في أي وقت سيأتي السيد لانغتن لنزع عش الزنابير هذا؟

-
لانغتن لن...

-
سألتك في أي وقت؟

-
في الساعة التاسعة. ولكنني أقول لك: انك مخطئ تماما. لانغتن لن يقدم أبدا...

صاح بوارو مقاطعا في نوبة عاطفة: يا لهؤلاء الانكليز!

ثم أخذ قبعته وعصاه ومضى عبر الممشى توقف قليلا ليلتفت ويقول: لن أبقى لكي أتجادل معك فلن أجني من ذلك الا اغضاب نفسي, ولكن, ليكن بعلمك: سأعود في الساعة التاسعة.

فتح هاريسن فمه ليتكلم, ولكن بوارو لم يعطه فرصة لذلك اذ قال: أعرف ما ستقوله... لانغتن لن يقدم أبدا... الخ. حسنا, أنت تقول: ان لانغتن لم يقدم أبدا! ولكنني -مع ذلك- عائد اليك في الساعة التاسعة. نعم, وسيسرني ذلك, اعتبرها هكذا: يسرني أن أشاهد تدمير عش الزنابير. اعتبرها رياضة من رياضاتكم الانكليزية!

لم ينتظر جوابا بل مضى سريعا في ممر الحديقة ثم الى الخارج عبر البوابة التي تصدر صريرا. وما أن أصبح في الشارع حتى خفت سرعة خطواته وتلاشت حيويته ونشاطه وأصبح وجهه قلقا وقورا. أخرج ساعته من جيبه ونظر اليها. كانت العقارب تشير الى الثامنة وعشر دقائق. تمتم قائلا: أكثر من ثلاثة أرباع الساعة. عجبا, هل استعجلت؟

تباطأت خطواته, بل بدا وكأنه وصل الى نقطة يكاد يعود فيها. بدا أن نذير شر غامضا يهاجمه ولكنه طرد ذلك الهاجس عنه بتصميم واستمر في سيره باتجاه القرية. ولكن وجهه كان ما يزال قلقا, وقد هز رأسه مرة أو مرتين صنع رجل لا يملك الا بعض القناعة.

كانت الساعة قبل التاسعة ببضع دقائق عندما اقترب مرة أخرى من بوابة الحديقة. كان المساء صافيا ساكنا لا تكاد ترى فيه هبة نسيم تحرك أوراق الشجر. ربما كان في هذا السكون شئ ما شرير كالهدوء الذي يسبق العاصفة.

تحركت قدما بوارو بشكل أسرع قليلا اذ شعر فجأة بالذعر وعدم اليقين. كان يخاف شيئا لا يدرك كنهه. وفي تلك اللحظة فتحت بوابة الحديقة وخرج منها كلود لانغتن بسرعة الى الشارع. وقد جفل عندما رأى بوارو وقال: آه...مـ... مساء الخير.

-
مساء الخير يا سيد لانغتن. لقد خرجت مبكرا.

نظر لانغتن اليه وقال: لا أدري ما الذي تعنيه؟

-
هل عالجت عش الزنابير؟

-
في الحقيقة... لا, لم أعالجه.

قال بوارو بلطف: آه, أنت لم تعالج عش الزنابير. فماذا فعلت اذن؟

-
جلست فقط وتحدثت قليلا مع هاريسن العجوز. انني مضطر حقا للاسراع بالانصراف الآن يا سيد بوارو. لم تكن لدي فكرة بأنك باق في هذا الجزء من العالم.

-
لدي عمل هنا.

-
آه! حسنا, ستجد هاريسن على المصطبة. أنا آسف لأنني لا أستطيع البقاء.

وأسرع مبتعدا. تابعه بوارو بنظراته. كان شابا عصبي المزاج حسن الهيئة ذا فم ينم عن الضعف! تمتم بوارو قائلا: فسأجد هاريسن على المصطبة اذن. ترى هل سأجده؟

دخل من بوابة الحديقة ثم عبر الممر. كان هاريسن جالسا على كرسي قرب الطاولة. جلس ساكنا بل انه لم يدر رأسه عندما اقترب منه بوارو قائلا: آه! يا صديقي. أأنت على ما يرام؟

ساد صمت طويل, قال بعده هاريسن بصوت ذاهل: ماذا قلت؟

-
قلت: هل أنت على ما يرام؟

-
بخير, نعم... أنا بخير. ولماذا لا أكون كذلك؟

-
ألا تشعر بأية آثار سيئة؟... هذا جيد.

-
آثار سيئة؟ من ماذا؟

-
من مسحوق غسول الصودا.

نهض هاريسن فجأة وقال: غسول الصودا؟ ما الذي تعنيه؟

قام بوارو بحركة اعتذار وقال: انني آسف جدا لاضطراري لذلك, ولكنني وضعت بعض حبيبات مسحوق الصودا في جيبك.

-
وضعت حبيبات الصودا في جيبي؟ لماذا بالله عليك؟

حدق هاريسن اليه. تكلم بوارو بهدوء وبأسلوب موضوعي وكأنه محاضر نزل الى مستوى طفل صغير: أنت تعلم أن واحدة من محاسن -أو مساوئ- العمل كرجل تحر أن ذلك يجعلك على اتصال مع طبقات المجرمين وهؤلاء يستطيعون أن يعلموك بعضا من أغرب الأمور وأشدها اثارة. صادفت نشالا ذات يوم واهتممت به لأنه -في تلك المرة تحديدا, من بين آلاف المرات- لم يكن قد ارتكب ما اتهم به, وهكذا أنقذته ولأنه شعر بالامتنان لي فقد وفاني أجري بالطريقة الوحيدة التي وصل اليها تفكيره, وهي تعليمي حيل مهنته. وهكذا فانني استطيع نشل جيب رجل -ان أردت- دون أن يحس أبدا ذلك. أضع احدى يدي على كتفه ثم أمثل دور المنفعل ولا يحس هو بشئ فيما أكون قد تمكنت من نقل ما في جيبه الى جيبي وترك بعض حبيبات الصودا مكانه.

ثم تابع بوارو حالما: أرأيت؟ ان أراد رجل أن يصل الى بعض السم بسرعة ليضعه في كأس دون أن يلحظه أحد فان عليه أن يحتفظ به في جيب معطفه الأيمن ليس من مكان آخر. لقد عرفت أنه سيكون هناك.

ثم دس يده في جيبه وأخرج بعض الحبيبات البيضاء المتكتلة المبلورة, وتمتم قائلا: خطيرة جدا... ولا ينبغي حملها هكذا دون اناء محكم.

ومن جيبه الآخر أخرج ببطء وهدوء زجاجة واسعة الفوهة. أدخل الحبيبات المتبلورة فيها ثم تقدم من الطاولة وملأ الزجاجة بالماء الصافي. بعد ذلك أغلق سدادتها بحذر وأخذ يرجها حتى ذابت الحبيبات. كان هاريسن يراقبه وكأنه مسحور. وبعد أن اقتنع بوارو بمحلوله مشى الى عش الزنابير... فتح الزجاجة وأدار رأسه جانبا وسكب المحلول في العش ثم تراجع خطوتين ليراقب الوضع.

كانت بعض الزنابير التي تحط عائدة الى عشها ترتجف قليلا ثم ترتمي ساكنه فيما زحفت زنابير أخرى خارج فتحة العش لترتمي ميتة بعدها. راقب بوارو ذلك برهة ثم هز رأسه وعاد الى الشرفة قائلا: موت سريع, سريع جدا.

وجد هاريسن أخيرا صوته وقال: ما هو مدى معرفتك؟

نظر بوارو أمامه تماما وقال: كما قلت لك, لقد رأيت اسم كلود لانغتن في السجل. أما ما لم أخبرك به فهو أنني صادفته بعد ذلك مباشرة. وقد أخبرني بأنه كان يشتري سيانيد البوتاسيوم بناء على طلبك أنت لتدمير عش الزنابير. وقد أثار ذلك انتباهي باعتباره أمرا غريبا يا صديقي لأنني أتذكر أنك -في ذلك العشاء الذي تحدثت عنه- تكلمت مطولا عن الحسنات الكبيرة لاستخدام النفط واستنكرت شراء السيانيد باعتباره خطيرا وغير ضروري.

-
استمر.

-
وعرفت شيئا آخر. لقد رأيت كلود لانغتن ومولي دين معا في مكان لم يكونا يعتقدان أن أحدا سيراهما فيه. انني لا أعرف تلك المشاجرة بين المحبين التي جعلتهما أساسا يفترقان ودفعت الفتاة اليك ولكنني أدركت بأن سوء التفاهم بينهما قد زال وأن الأنسة دين كانت في طريق عودتها الى حبيبها.

-
استمر.

-
وقد علمت شيئا آخر يا صديقي. لقد كنت في شارع هارلي شارع الأطباء قبل أيام وقد رأيتك تخرج من عيادة طبيب معين. وأنا أعرف الطبيب وأعرف المرض الذي يلجأ اليه الناس من أجله وقد رأيت التعبير على وجهك. ذلك التعبير الذي لم أره سوى مرة أو مرتين طوال حياتي ولكنه تعبير لايمكن الخطأ فيه. كان وجهك وجه رجل حكم عليه بالاعدام. أنا على حق في هذا أليس كذلك؟

-
على حق تماما, وقد قرر الطبيب أنني لن أعيش سوى شهرين.

-
أنت لم ترني يا صديقي؛ لأنك كنت مشغولا جدا بأمور أخرى تفكر فيها. وقد رأيت شيئا آخر على وجهك ذلك الشئ الذي قلت لك عصر اليوم ان الرجال يحاولون اخفاءه... رأيت فيه الكراهية يا صديقي. انك لم تكلف نفسك عناء اخفاءها, لأنك لم تظن أن أحدا كان يراقبك.

-
استمر.

-
لم يعد لدي كثير مما يقال. جئت هنا ورأيت اسم لانغتن بالمصادفة في سجل السموم كما قلت لك, ثم قابلته وجئتك هنا. لقد نصبت لك فخاخا. أنت أنكرت أنك طلبت من لانغتن الحصول على السيانيد أو بالأحرى عبرت عن دهشتك لفعلته ذاك. لقد فوجئت في البداية لدى رؤيتي ولكنك سرعان ما أدركت أن وجودي سيكون مناسبا لما تفكر فيه, فشجعت شكوكي. كنت أعرف من لانغتن نفسه أنه سيأتي هنا في الساعة الثامنة والنصف, ولكنك قلت انه سيجئ في التاسعة معتقدا أنني سآتي لأجد كل شئ منتهيا, وهكذا كنت أعرف كل شئ.

-
لماذا أتيت؟ لو أنك فقط لم تأت!

اعتدل بوارو في جلسته وقال: لقد قلت لك, ان القتل هو اختصاصي.

-
القتل؟ بل قل: الانتحار.

صدع صوت بوارو حادا واضحا وهو يقولك كلا, بل أعني القتل. كان موتك سيكون سريعا وسهلا ولكن موت لانغتن الذي خطط له كان أسوأ موت يمكن لانسان أن يلقاه, فهو الذي اشترى السم وهو الذي جاء لزيارتك وهو -وحده- الذي كان معك. تموت فجأة ويكشف السيانيد في كأسك ويشنق كلود لانغتن... تلك كانت خطتك.

زمجر هاريسن مرة أخرى نائحا: لماذا أتيت؟ لماذا أتيت؟

-
لقد أخبرتك. ولكن يوجد سبب آخر؛ وهو أنني أحبك. اسمع يا صديقي انك رجل يحتضر وقد فقدت الفتاة التي أحببتها ولكن شيئا واحدا لا يمكن أن تكونه... فأنت لست قاتلا. قل لي الآن: أأنت سعيد أم آسف لحضوري.

ساد لحظات صمت, واعتدل هاريسن في جلسته. بدت في وجهه هيئة جديدة: هيئة رجل استطاع أن يتحكم بدخيلة نفسه العميقة. مد يده عبر الطاولة وصاح: شكرا لله أنك أتيت... آه, شكرا لله أنك أتيت.
النهايــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة

علبة الحلوى -اجاثا كريستس -المحقق بوارو -


علبة الحلوى


كانت ليلة هائجة فقد كانت الريح تزأر بعنف والمطر يضرب النوافذ بموجات هائلة.

جلسنا -بوارو وأنا- مقابل الموقد وقد سرحنا سيقاننا باتجاه ألسنة اللهب البهيجة كانت بيننا طاولة صغيرة وعليها -أمامي- كوب ضخم من الشاي الحار وأمام بوارو كوب من الشراب الكاكاو الكثيف الذي ماكنت لأشربه لو دفعوا لي مائة جنيه!

ارتشف بوارو ذلك المزيج الثخين البني من كوبه الصيني الأحمر وتنهد باطمئنان ورضا قائلا: يا للحياة الجميلة!

-
نعم انه عالم جيد فها أنا لدي عمل وعمل جيد أيضا! وها أنت مشهور...

قاطعني بوارو محتجا: آه ياصديقي!

-
ولكنك مشهور بالفعل وعن جدارة أيضا! عندما أستعيد في تفكيري سلسلة نجاحاتك الطويلة فانني أدهش لها لا أعتقد أنك تعرف ما هو الفشل!

-
إن من يستطيع ادعاء ذلك يكون مهرجا غريب الأطوار!

-
كلا ولكن قل لي بجد: هل أن سبق أن فشلت أبدا؟

-
مرات لا حصر لها ياصديقي ماذا بوسعك أن تفعل؟ ان المصادفة السعيدة لا يمكن أن تكون دائما الى جانبك كثيرا ماتم استدعائي في وقت متأخر جدا وكثيرا ما وصل قبلي شخص آخر كان يعمل باتجاه الهدف نفسه مرتين صرعني المرض تماما عندما كنت على حافة النجاح على المرء أن يأخذ بالاعتبار حالات النجاح وحالات الفشل معا ياصديقي.

-
ليس هذا ماقصدته بالضبط ما عنيته هو: هل فشلت من قبل تماما في قضية بسبب خطأ ارتكبته أنت؟

-
آه فهمت! انك تسأل ان كان قد سبق أن جعلت من نفسي حمارا كما تقولون في بلادكم هما؟ مرة واحدة يا صديقي...

وتبدت على وجهه ابتسامة بطيئة متأملة وأضاف: نعم مرة واحدة جعلت من نفسي أضحوكة!

ثم اعتدل فجأة في كرسيه وقال: اسمعني يا صديقي أعرف أنك احتفظت بسجل لنجاحاتي الصغيرة وعليك أن تضيف قصة أخرى الى مجموعتك قصة فشل!

انحنى الى الأمام ووضع حطبة في الموقد وبعد أن مسح يديه بعناية بمنشفة معلقة بمسمار لهذا الغرض عاد ليسترخي على كرسيه وبدأ قصته:

هذا الذي أرويه لك حدث في بلجيكا منذ سنوات عديدة كان ذلك في زمن الصراع الرهيب في فرنسا بين الكنيسة والدولة كان السيد بول ديرولار نائبا فرنسيا نابها ولم يكن سرا أن حقيبة وزارية تنتظره كان واحدا من أكثر المعادين للكنيسة وكان من المؤكد أنه سيضطر لمواجهة عداء عنيف لدى توليه السلطة وقد كان رجلا متميزا من عدة جوانب ومع أنه لم يكن يشرب ولا يدخن الا أنه لم يكن متزمتا كثيرا في جوانب أخرى هل تفهمني يا هيستنغر أعني في النساء... انهن دوما في الصورة!

كان تزوج قبل بضع سنوات امرأة شابة من بروكسل أعطته مهرا لا بأس به ولا شك أن المال كان مفيدا له في حياته المهنية اذ لم تكن عائلته غنية مع أنه كان -من جهة أخرى- مخولا بتسمية نفسه بارونا لو أراد لم يسفر الزواج عن أطفال وماتت زوجته بعد عامين نتيجة سقطة من الدرج ومن ضمن الممتلكات التي ورثها عنها بيت في شارع لويس في بروسكل.

في ذلك البيت حدثت وفاته المفاجئة تصادفت وفاته مع استقالة الوزير الذي كان مقدرا له أن يخلفه وقد نشرت كل الصحف مقالات مطولة عن حياته السياسية وعزت موته -الذي حدث بشكل مفاجئ تماما بعد طعام العشاء- الى حدوث أزمة قلبية.

في ذلك الوقت كنت ياصديقي -كما تعلم- عضوا في جهاز التحري البلجيكي ولم تكن وفاة السيد بول ديرولار مثيرة بشكل خاص بالنسبة لي فأنا -كما تعلم- متدين أيضا وقد بدت لي وفاته أمرا مفرحا.

بعد ثلاثة أيام من وفاته وكانت اجازتي على وشك أن تبدأ جاءتني زائرة الى بيتي كانت امرأة تضع خمارا سابغا ولكنها بدت شابة تماما وأدركت علىالفور أنها كانت فتاة كأجمل ما يمكن للفتاة أن تكون. سألتني بصوت عذب منخفض: أنت السيد هيركيول بوار؟ فانحنيت لها. قالت:من جهاز التحري؟. انحنيت ثانية وقلت: تفضلي بالجلوس أرجوك يا آنستي.

أخذت كرسيا ورفعت خمارها كان وجهها ساحرا رغم الدموع التي شوهته وكانت ذاهلة كأنها مسكونة بقلق حاد. قالت: سيدي إنني اعرف أنك ستأخذ إجازتك الآن ولذلك ستكون حرا للنظر في قضية خاصة. أنت تدرك بأنني لا أريد استدعاء الشرطة.

هززت رأسي يالنفي وقلت: أخشى أن لا يكون ما تطلبينه ممكنا يا آنستي فأنا أظل واحدا من رجال الشرطة ولو كنت في إجازة.

اتكأت الى الأمام وقالت: اسمع ياسيدي... إن كل ما أطلبه منك هو أن تتحرى وفيما يخص نتيجة تحرياتك فأنت حر تماما في تقديمها للشرطة إن كل ما أظنه صحيحا بالفعل فإننا سنحتاج الى كل "ماكينة" للقانون.

أضفى ذلك طابعا مختلفا بعض الشئ على القضية ووضعت نفسي في خدمتها دون مزيد من اللغو صبغ لون خفيف وجنتيها وقالت: أشكرك ياسيدي ان وفاة السيد بول ديرولار هي ما أطلب منك أن تتحرى عنه.

هتف مدهوشا: ماذا؟

قالت: سيدي ليس لدي من شئ أنطلق منه في هذه القضية... لاشئ سوى غريزة المرأة ولكنني مقتنعة -يقينا- بأن السيد ديرولار لم يمت ميتة طبيعية!

قلت: ولكن من المؤكد أن الأطباء...

قاطعتني قائلة: قد يخطئ الأطباء لقد كان مفعما بالحيوية قويا جدا آه ياسيد بوارو انني أتوسا إليك أن تساعدني...

كانت الطفلة المسكينة في غاية الهم والقلق وكانت مستعدة لأن تركع أمامي فهدأتها بأفضل ما استطعت وقلت: سأساعدك يا آنسة انني أكاد أكون واثقا من أن مخاوفك لا أساس لها من الصحة ولكننا سنرى. سأطلب منك -أولا- أن تصفي لي ساكني البيت.

قالت: يوجد الخدم بالطبع: جانيت وفيليس ودينيس الطباخة وقد عملت الطباخة في البيت من سنين عديدة أما الخادمتان فهما فتاتان ريفيتان بسيطتان يوجد أيضا فرانسو ولكنه هو الآخر خادم قديم وأيضا والدة السيد ديرولار التي تعيش معه وأنا. اسمي فيرجيني منسار وأنا ابنة عم فقيرة للراحلة زوجة السيد ديرولار ولقد أصبحت عضوة في أسرة ساكني المنزل منذ أكثر من ثلاث سنوات. لقد وصفت لك الآن ساكني المنزل ولكن لدينا أيضا ضيفان يقيمان في المنزل.

-
وهما؟

-
السيد دوسان آلار وهوجار للسيد ديرولار في فرنسا وصديق انكليزي هو السيد جون ويلسن.

-
ألا يزالان معكم؟

-
بالنسبة للسيد ويلسن فانه موجود ولكن السيد دوسان آلار غادر بالأمس.

-
وما هي خطتك يا آنسة منسار؟

-
إن أمكنك المجئ الى البيت خلال نصف الساعة القادمة فسأكون قد رتبت قصة لتبرير وجودك من الأفضل أن أقدمك على أنك مرتبط بالصحافة بشكل أو بآخر سأقول انك جئت من باريس وانك أحضرت بطاقة تعريف وتوصية من السيد دوسان آلار ان صحة مدام ديرولار عليلة تماما ولن تلتفت كثيرا للتفصيلات.

وبناء على التبرير العبقري للآنسة دخلت المنزل وبعد مقابلة قصيرة مع والدة النائب المتوفى -التي كانت ذات شخصية جليلة أرستقراطية رغم وضوح تداعي صحتها- تحررت من المقدمات وبسط الأعذار.

انني لأتساءل -يا صديقي- ان كان بوسعك تصور الصعوبات التي تكتنف مهمتي؟ فأنا أمام رجل حدثت وفاته لعبة قذرة بالفعل فان احتمالا واحدا فقط كان يمكن قبوله: السم ولم تكن لدي فرصة رؤية الجثة ولم أملك أي امكانية لفحص أو تحليل الوسط أو الطعام الذي تم فيه دس السم. لم أجد أية دلائل أو مؤشرات يمكن تقييمها سواء أكانت مزيفة أم حقيقية. هل تم تسميم الرجل؟ هل مات موتا طبيعيا؟ كان علي أنا -هيركيول بوارو- ودون أية مساعدة أن أقرر.

في البداية قابلت الخدم وبمساعدتهم أعدت تلخيص أحداث تلك الليلة وقد أوليت انتباها خاصا لطعام العشاء وطريقة تقديمه فقد قام السيد ديرولار نفسه بتقديم الحساء ثم تقديم طبق شرائح اللحم مع عظامها ثم الدجاج وأخيرا طبق فواكه مطبوخة بالسكر وكل ذلك وضع على الطاولة وقدمه السيد ديرولار بنفسه وقد جئ بالقهوة في ابريق كبير الى طاولة العشاء لم أجد شيئا يا صديقي يستحيل تسميم شخص دون تسميم الجميع!

بعد العشاء عادت مدام ديرولار الى جناحها ورافقتها الآنسة فيرجيني وقد انتقل الرجال الثلاثة الى مكتب السيد ديرولار حيث تبادلوا الأحاديث بشكل ودي لبعض الوقت ثم فجأة ودون سابق انذار سقط النائب بقوة على الأرض اندفع السيد دوسان آلار الى الخارج وطلب من الخادم فرانسوا احضار طبيب قائلا انها سكتة قلبية بلا شك كما شرح الخادم ولكن عندما وصل الطبيب كان الوقت قد فات لمساعدة المريض.

كان السيد جون ويلسن -الذي قدمتني له الآنسة فيرجيني- رجلا انكليزيا نموذجيا في تمثيله لأبناء جلدته في أواسط عمره ضخم البنية وقد كانت روايته للحادثة التي سردها بفرنسية تغلب عليها اللكنة الانكليزية شبيهة مع ما سردته عليك الى حد كبير.
قال: "احمر وجه ديرولار كثيرا ثم سقط ارضا".

لم يكن من شئ اضافي يمكن العثور عليه هناك بعد ذلك ذهبت الى مسرح وقوع المأساة في المكتب وتركت هناك بناء على طلبي حتى الآن لم أجد ما يؤيد نظرية الآنسة منسار ولم استطع منع نفسي من الاعتقاد بأن الأمر كان مجرد وهم من طرفها وكان من الواضح أنها كانت تحتفظ للفقيد بعاطفة رومانسية لم تسمح لها بأن تنظر نظرة طبيعية للقضية ومع ذلك فقد فتشت المكتب بعناية تفصيلية دقيقة كان ممكنا أن توضع ابرة حقن في كرسي النائب بطريقة تسمح بتمرير حقنة قاتلة الى جسده وكان يحتمل أن تمر اللسعة الخفيفة التي تسببها البرة دون أن ينتبه لها. ولكنني لم أستطع اكتشاف أية اشارة تدعم هذه النظرية ورميت نفسي على الكرسي بحركة يأس.

قلت لنفسي بصوت عال: وماذا بعد؟ سأترك القضية! ليس من مؤشر في أي مكان! كل شئ طبيعي تماما.

وفيما كنت أقول هذه الكلمات وعت عيناي على علبة حلوى كبيرة تنتصب على طاولة قريبة وقفز قلبي من مكانه ربما لم يكن هذا مؤشرا يقود الى تفسير وفاة السيد ديرولار ولكن ها قد وجدت -على الأقل- شيئا ليس طبيعيا رفعت غطاء العلبة كانت مليئة لم تمس ولم تفقد ولا قطعة واحدة ولكن لم يكن من شأن ذلك الا أن يجعل الغرابة التي جذبت انتباهي أقوى وأشد تأثيرا أتدري لماذا يا هيستنغز؟ لأنه بينما كانت العلبة نفسها وردية اللون كان غطاؤها أزرق يمكن للمرء أن يرى دوما شريط زينة أزرق على علبة وردية والعكس ولكن أن يجد علبة من لون وغطاءها من لون آخر فلا. بالتأكيد هذا ما لم أره مطلقا!

ومع ذلك فلم أكن أعتقد بأن هذا الحديث البسيط يحمل أي فائدة لي ولكنني صممت على تحري الأمر باعتباره خارجا عن المألوف قرعت الجرس طلبا للخادم فرانسوا وسألته ان كان سيده الفقيد مغرما في ما مضى بالحلويات ارتسمت على شفتيه ابتسامة كآبة باهتة وقال: كان مغرما بها جدا يا سيدي كان يحتفظ دوما بعلبة حلوى في المنزل انه لم يكن يشرب الخمر أبدا كما تعلم.

رفعت غطاء العلبة أمامه وقلت: ومع ذلك فان هذه العلبة لم تمس أبدا؟

-
عفوا يا سيدي ولكن هذه العلبة جديدة وقد اشتريت يوم وفاته باعتبار أن الحلوى هي الأخرى أوشكت على النفاد.

قلت له ببطء: اذن فان العلبة الأخرى فرغت يوم وفاته.

-
نعم يا سيدي وجدتها فارغة عند الصباح ورميتها.

-
أكان السيد ديرولار يأكل الحلويات في كل ساعات النهار؟

-
بعد العشاء عادة يا سيدي.

بدأت أرى بصيص نور. قلت: فرانسوا.. أتستطيع حفظ السر؟

-
بالطبع يا سيدي.

-
حسنا! فاعلم اذن أنني من الشرطة هل تستطيع أن تجد لي تلك العلبة الأخرى؟

-
دون شك يا سيدي ستمون في سلة المهملات.

غادر ثم عاد بعد دقائق بعلبة يعلوها الغبار كانت نسخة طبق الأصل عن العلبة التي لدي باستثناء أن العلبةكانت زرقاء هذه المرة وكان غطاؤها ورديا.

شكرت فرانسوا ونصحته مرة أخرى بالتكتم وغادرت المنزل في شارع لويسدون مزيد من اللغط.

بعدها زرت الطبيب الذي عاين السيد ديرولار وكانت مهمتي معه صعبة فقد تخندق بعناد خلف جدار من الكلمات والمفردات المتخصصة ولكنني تخيلت بأنه لم يكن واثقا تمام بخصوص القضية كما كان يجب أن يكون.

قال بعد أن تمكنت من انتزاع أسلحته الى حد ما: لقد ةقعت حوادث غريبة كثيرة من هذا النوع نوبة غضب مفاجئة عاطفة هوجاء بعد عشاء ثقيل هذا أمر يحدث ثم بموجة من الغضب يصعد الدم الى الرأس ثم "بست"! ينتهي كل شئ!

-
ولكن لم تكن لدى السيد ديرولار عاطفئة هوجاء.

-
لم تكن لديه؟ انني واثق أنه كان يخوض مشاحنة كلامية عاصفة مع السيد دوسان آلار.

-
ولماذا؟

رفع الطبيب كتفيه دهشة وقال: أمر واضح! ألم يكن السيد دوسان آلا كاثوليكيا متعصبا؟ لقد دمرت صداقتهما بسبب هذه المشكلة بين الكنيسة والدولة ولم يكن يمر يوم دون نقاشات كان ديرولار يبدو للسيد دوسان آلار معاديا للقيم الدينية.

كان هذا الأمر غير متوقع وقد أعطاني ذخيرة للتفكير قلت: سؤال يا آخر يا دكتور: هل من الممكن دس جرعة قاتلة من السم في قطعة حلوى؟

-
أحسب أن ذلك ممكن ان حامض البروسيك الصافي يمكن أن يناسب هذا الاحتمال بغياب فرصة لتبخره ويمكن ابتلاع كرة صغيرة من أي مادة دون الانتباه لها ولكنه لا يبدو احتمالا مرجح الحدوث ان قطعة حلوى مليئة بالمورفين أو الاستريكنين...

ثم أبدى وجها متمعجا وأردف قائلا: أنت تدرير يا سيد بوارو ان لقمة واحدة تكفي! والغافل لن يدقق في الشكليات والتفصيلات.

-
شكرا لك ياسيدي الدكتور.

غادرته وقمت بعدها بتحريات لدى الصيادلة وخاصة أولئك القريبين من شارع لويس إنه لأمر جيد أن تكون في سلك الشرطة فقد حصلت على ما أردته من معلومات بدون مصاعب ولم أعثر -الا في حالة واحدة- على أية مناسبة تم فيها تزويد ساكني البيت بأي نوع من السموم وكان الأمر -في تلك الحالة- على شكل قطرات عين من سولفات الأتروبين للسيدة ديرولار والأتروبين سم فعال ولقد فرحت للحظة ولكن أعراض الأتروبين قريبة من أعراض التسمم الغذائي وليس فيها أي شبه بالحالة التي كنت أحقق فيها وبالاضافة الى ذلك فقد كانت الوصفة قديمة فقد كانت المدام ديرولار تعاني منذ سنوات طويلة من اعتام العدسة في عينيها.

وكنت أهم بالخروج خائبا عندما أعادني صوت الصيدلي: دقيقة يا سيد بوارو أتذكر أن الفتاة التي أحضرت لي هذه الوصفة قالت شيئا يفيد بأنها مضطرة للذهاب الى الصيدلي الانكليزي بوسعك أن تجرب هناك.

وقد جربت بالفعل فارضا مرة أخرى مكانتي الرسمية وحصلت على المعلومات التي أريدها في اليوم الذي سبق وفاة السيد ديرولار حضر العاملون في الصيدلية وصفة للسيد جون ويلسن وهذا لا يعني أنها كانت بحاجة الى تحضير فلم تكن سوى حبوب من الترينيترين سألت ان كان بوسعي أن أرى نموذجا لها فأروني اياها فأخذ قلبي يدق أسرع فأسرع ذلك أن الحبوب الصغيرة كانت مصنوعة من الحلوى.

سألت: هل هي سم؟

قال الصيدلي: كلا سيدي.

-
هل تستطيع أن تصف لي تأثيرها؟

-
انها تخفض ضغط الدم وهي توصف لبعض أنواع أمراض القلب كالخناق الصدري مثلا انها تخف التوتر في العضلة القلبية وفي حال تصلب الشرايين...

قاطعته قائلا: يا عزيزي! هذه المفردات المختصة لا تعني شيئا بالنسبة لي هل تجعل هذه الحبوب الوجه يتورد؟

-
نعم بالتأكيد

-
ولنفترض انني ابتعلت عشرا أو عشرين من حباتك الصغيرة هذه فما الذي يحدث؟

أجاب الصيدلي بجفاء: انني لا أنصحك بمحاولة ذلك.

-
ومع ذلك فانك تقول انه ليس سما؟

أجاب بجفاء أيضا: يوجد الكثير من الأشياء التي لا تمسى سما وتستطيع قتل الانسان.

تركت الصيدلية مبتهجا فقد بدأت الأمور تنجلي أخيرا!

لقد عرفت الآن بأن جون ويلسن كان يملك أداة الجريمة... ولكن ماذا عن الدوافع؟ كان قد جاء الى بلجيكا في عمل وطلب من السيد ديرولار -الذي كان على معرفة سطحية به- أن يستضيفه. كان واضحا أنه ما من طريقة يمكن أن يكون بها موت السيد ديرولار مفيدا له وفوق ذلك فقد أدركت من خلال تحريات في انكلترا بأنه كان يعاني منذ سنوات عديدة من ذلك النوع من مرض القلب الذي يدعى الخناق الصدري ولذلك فقد كان له حق مطلق في الاحتفاظ بتلك الحبوب في متناول يده ومع ذلك كنت مقتنعا بأن شخصا ما ذهب الى علبة الحوى وفتح العلبة الملأى في البداية عن طريق الخطأ ثم نزع لب أو محتويات آخر قطعة في العلبة القديمة ثم حشاها بدل ذلك بكل ما يمكن أن تستوعبه من حبات الترينترين لقد كانت قطعة الحلوى كبيرة وكنت واثقا أنه كان بالامكان ادخال ما بين عشرين الى ثلاثين حبة في القطعة ولكن من الذي فعل ذلك؟

كان في المنزل ضيفان وكانت لدى جون ويلسن أداة الجريمة ولدى سان آلار الدافع لها تذكر أنه كان متعصبا وليس من متعصب كالمتعصب لدينه أيمكن أن يكون قد حصل -بطريقة أو بأخرى- على حبوب جون ويلسن؟

خطرت لي فكرة صغيرة أخرى آه انك تبتسم لأفكاري الصغيرة! لماذا استنفذ جون ويلسن حبوبه؟ من المؤكد أن يكون قد أحضر معه ذخيرة تكفيه من انكلترا عدت مرة أخرى لزيارة البيت في شارع لويس كان ويلسن خارجا ولكنني رأيت فيليس الفتاة التي تنظف غرفته وسألتها فورا ان كان صحيحا أن السيد ويلسن قد فقد زجاجة دواء من فوق مغسلته قبل بعض الوقت أجابت الفتاة بلهفة بأن ذلك كان صحيحا تماما وأنها قد تعرضت للوم بسبب ذلك وقد ظن السيد الانكليزي بأنها كسرتها ولم ترغب بالاعتراف بذلك بينما هي لم تلمسها أبدا وقالت: انها بلا شك جانيت التي تدس أنفها دوما في أمور لا علاقة لها بها...

هدأت من سخطها واستأذنت بالانصراف لقد عرفت الآن كل ما احتجت لمعرفته بقي علي أن أثبت قضيتي وشعرت بأن ذلك لن يكون سهلا قد أكون أنا واثقا من أن سان آلار قد أخذ زجاجة الترينيترين عن مغسلة جون ويلسن ولكن حتى أقنع الآخرين لا بد لي من ابراز دليل ولم يكن لدي لأبرزه!

ولكن لا يهم... انني أعرف الحقيقة كان ذلك هو الأمر العظيم انك تتذكر الصعوبة التي واجهتنا في قضية ستايلز يا هيستنغز؟ هناك أيضا كنت أعرف ولكنني استغرقت وقتا طويلا حتى أجد الصلة الأخيرة المفقودة التي جعلت من سلسلة دلائلي ضد القاتل سلسلة كاملة.

طلبت مقابلة مع الآنسة منسار وجاءت على الفور طلبت منها عنوان السيد دوسان آلار اعترت وجهها مسحة قلق وقالت: لماذا تريده يا سيد بوارو؟

-
انه ضروري يا آنستي.

بدت مرتابة قلقة قالت: انه لايستطيع أن يخبرك بشئ فهو رجل يعيش خارج هذا العالم ولا يكاد يلاحظ مايدور حوله!

-
هذا ممكن يا آنسة ولكن مع ذلك فقد كان صديقا قديما للسيد ديرولار وربما كان يعرف أشياء يستطيع أن يخبرني عنها أشياء من الماضي... عداوات قديمة... علاقات حب قديمة.

توردت وجنتا الفتاة وعضت شفتها ثم قالت: كما ترغب ولكني... ولكني أشعر الآن بأنني على ثقة من أنني كنت مخطئة لقد كان لطفا منك أن توافق على طلبي ولكنني كنت منزعجة... بل كنت شديدة الاضطراب في ذلك الوقت انني أدرك الآن بأنه لم يكن في الأمر لغز يتطلب حلا اترك الأمر أرجوك يا سيدي.

تأملتها بامعان ثم قلت: يا آنستي من الصعب أحيانا على كلب الصيد أن يعثر على الأثر الذي يقوده الى طريدته ولكن -اذا وجده فعلا- فما من قوة تجعله يتركه! ذلك اذا كان كلب صيد جيدا... وأنا يا آنستي هيركيول بوارو كلب صيد جيدا جدا!

دارت دون أن تنبس بشفة وبعد بضع دقائق عادت بالعنوان مكتوبا على ورقة صغيرة غادرت المنزل وكان الخادم فرانسوا ينتظرني في الخارج نظر الي بلهفة وقال: أما من أخبار يا سيدي؟

-
حتى الآن كلا يا صديقي.

تنهد وقال: آه! السيد ديرولار المسكين! أنا أيضا كانت لي نفس طريقة تفكيره ولكن هذا لا يعني أنني استطيع التصريح بذلك في البيت فالنساء هناك ورعات كلهن وربما كان ذلك أمرا جيدا ان السيدة تقية جدا والآنسة فيرجيني كذلك أيضا.

تساءلت: الآنسة فيرجيني؟ أهي تقية جدا؟

تعجبت من ذلك وأنا أفكر بوجهها العاطفي الذي أهزلته الدموع الذي رأيته في ذلك اليوم الأول.

وعندما حصلت على عنوان السيد سان آلار لم أضيع أي وقت وصلت الى جوار بيته الريفي في مقاطعة آردين ولكن أعياني العثور على عذر لدخول المنزل لبضعة أيام وفي النهاية وجدت ذلك العذر كيف تظنني دخلت؟ كسمكري ياصديقي! استغرقت مسألة ترتيب تسرب صغير في الغاز في غرفة نومه دقيقة واحدة تركت المنزل لاحضار أدواتي وحرصت على العودة بأدواتي في ساعة عرفت فيها أنني سأكون في الساحة وحدي لم أكد أعرف ما الذي أبحث عنه ولم أستطع اقناع نفسي بوجود أية فرصة للعثور على الأمر الوحيد المفيد بالنسبة للقضية فلم يكن يجازف للاحتفاظ به.

ومع ذلك فعندما وجدت الخزانة الصغيرة فوق المغسلة مقفلة لم أستطع مقاومة اغراء رؤية ما بداخلها كان القفل من النوع الذي يسهل تماما فتحه انفتح باب الخزانة وكانت مليئة بالزجاجات القديمة أخرجتها واحدة واحدة بيد ترتعش وفجأة ندت عني صرخة تصور يا صديقي لقد أمسكت بيدي قارورة صغيرة عليها ملصق الصيدلي النكليزي وقد كتب عليه: "حبوب ترينيترين تؤخذ حبة واحدة عند اللزوم. السيد جون ويلسن".

سيطرت على انفعالي وأغلقت الخزانة ودسست القارورة في جيبي وتابعت تصليح تسرب الغاز... اذ أن الانسان ينبغي أن يكون منظما! بعدها غادرت البيت الريفي وركبت القطار عائدا الى بلدي بأسرع ما يمكن وصلت الى بروكسل في وقت متأخر من تلك الليلة وفي الصباح كنت أكتب تقريرا لرئيس جهاز التحري عندما جاءتني ملاحظة وكانت الملاحظة من مدام ديرولار تطلبني فيها الى المنزل في شارع لويس دون تأخير.

فتح فرانسوا الباب لي وقال: السيدة البارونة في انتظارك.

قادني الى جناحها كانت تجلس على كرسيها بكل جلالها ولم أر أثرا للآنسة فيرجيني قالت السيدة العجوز: سيد بوارو لقد سمعت لتوي بأنك ليس كما ادعيت وأنك ضابط شرطة.

-
هذا صحيح يا سيدتي.

-
وجئت هنا لتحقق في ظروف وفاة ابني؟

أجبت ثانية: هذا صحيح يا سيدتي.

-
سأكون سعيدة ان تكرمت باخباري بالتقدم الذي أحرزته.

ترددت ثم قلت: خبريني كيف عرفت كل ذلك يا سيدتي؟

-
من شخص لم يعد من هذا العالم.

كلماتها والطريقة التي نطقت بها جعلت قشعريرة رعب تسري في صدري وعجزت عن الكلام قالت: ولذلك يا سيدي أتوسل اليك بكل الحاح أن تخبرني بالضبط بالتقدم الذي أحرزته في تحرياتك.

-
سيدتي لقد انتهت تحرياتي.

-
وابني؟

-
قتل عمدا.

-
هل تعرف القاتل؟

-
نعم يا سيدتي.

-
فمن هو اذن؟

-
السيد دوسان آلار.

-
أنت مخطئ فهو غير قادر على ارتكاب مثل هذه الجريمة.

-
الأدلة في يدي.

-
أتوسل اليك ثانية أن تخبرني بكل شئ.

أطعتها هذه المرة مستعرضا كل خطوة قادتني الى كشف الحقيقة أصغت الي بانتباه وفي النهاية هزت رأسها وقالت: نعم، نعم كل شئ كما قلت كل شئ باستثناء أمر واحد فليس السيد دوسان آلار هو من قتل ابني بل أنا الذي قتلته... أمه!

حدقت اليها واستمرت هي تهز رأسها بهدوء ثم قالت: كان خيرا أنني أرسلت في طلبك ان من عناية الله الرحيم أن فيرجيني أخبرتني -قبل أن ترحل للالتحاق بدير- بما فعلته. اسمع يا سيد بوارو: لقد كان ابني رجلا شريرا فقد آذى الكنيسة وعاش حياة من الخطايا المهلكة وقد أغوى نفوسا أخرى مع نفسه ولكنه فعل ما هو أسوأ من ذلك ففي صبيحة أحد الأيام بينما كنت أخرج من غرفتي في هذا البيت رأيت زوجة ابني واقفة عند رأس الدرج كانت تقرأ رسالة ورأيت ابني يتسلل من خلفها وبدفعة سريعة واحدة وقعت وارتطم رأسها بالدرجات الرخامية وعندما انتشلوها كانت قد ماتت لقد كان ابني قاتلا وأنا فقط أمه كنت أعرف ذلك.

أغمضت عينيها لحظة ثم تابعت: لا تستطيع -يا سيدي- تخيل ألمي ويأسي ماذا كان علي أن أفعل؟ أدينه أمام الشرطة؟ لم أستطع حمل نفسي على ذلك كان ذلك واجبا علي ولكن جسمي كان ضعيفا وفوق ذلك: هل كانوا سيصدقونني؟ كان نظري يضعف منذ مدة وكانوا سيقولون بأنني كنت مخطئة لزمت الصمت ولكن ضميري لم يسمح لي بالراحة فبلزومي للصمت كنت أنا أيضا قاتلة وقد ورث ابني أموال زوجته وازدهر كشجرة اللبلاب وأصبح الآن على وشك استلام حقيبة وزارية وسيكون أذاه للكنيسة مضاعفا ورأيت فيرجيني تلك الطفلة المسكينة الجميلة التقية بطبيعتها تتعلق به بشغف كانت له سلطة غريبة فظيعة على النساء ورأيت المصيبة قادمة رأي العين وكنت عاجزة عم منعها لم يكن ينوي الزواج بها وجاء الوقت الذي أصبحت فيه جاهزة لتسليمه كل شئ.

عندها رأيت طريقي واضحا لقد كان ولدي فأنا التي أعطيته الحياة وكنت مسؤولة عنه وقد قتل جسد امرأة ويوشك الآن على قتل روح امرأة أخرى! ذهبت الى غرفة السيد ويلسن وأخذت قارورة الحبوب كان قال مرة مازحا بأنه كان في تلك القارورة ما يكفي لقتل رجل! ذهبت الى المكتب وفتحت علبة الحلوى الكبيرة التي كانت دائما على الطاولة فتحت علبة جديدة بالخطأ وكانت الأخرى على الطاولة أيضا وفيها قطعة واحدة باقية فقط وقد سهل ذلك الأمور علي فلا أحد يأكل الحلوى سوى ابني وفيرجيني وكنت سأبقيها معي تلك الليلة وقد حدث كل شئ كما خططت...

توقفت وقد أغمضت عينيها لبرهة ثم فتحتها ثانية وقالت: سيد بوارو انني بين يديك لقد قالوا لي بأن أيامي معدودة في هذه الحياة وأنا مستعدة لتحمل مسؤولية عملي أمام الله فهل علي أن أتحملها على الأرض أيضا؟

ترددت ثم قلت لكسب بعض الوقت: ولكن ماذا عن الزجاجة الفارغة يا سيدتي كيف جاءت تلك الى حوزة السيد دوسان آلار؟

قالت: عندما جاء ليودعني يا سيدي دسستها في جيبه لم أكن أعرف كيف أتخلص منها انني عاجزة الى الحد الذي لا أستطيع معه التحرك كثيرا دون أي مساعدة وكان العثور عليها فارغة في جناحي مسألة قد تثير الشكوك هل فهمتني يا سيدي؟

ثم عدلت جلستها لتبلغ كامل طولها وقالت: كان ذلك دون أن أقصد القاء الشبهة على السيد دوسان آلار! لم أحلم أبدا بشئ كهذا فكرت بأن خادمه سيجد قارورة فارغة ويرميها دونما سؤال.

انحنيت لها وقلت: لقد فهمت يا سيدتي.

-
وقرارك أيها السيد؟

كان صوتها عازما غير متعلثم ورأسها مرفوعا أكثر من أي وقت مضى نهضت على قدمي وقلت: سيدتي يشرفني أن أتمنى لك يوما سعيدا لقد قمت بتحرياتي... وفشلت! انتهت القضية.

صمت بوارو لحظة ثم قال بهدوء: ولقد ماتت بعد أسبوع فقط تلك يا صديقي هي القصة علي أن أعترف بأنني لم أوفق الى تخمين صحيح فيها.

-
ولكن ذلك لا يكاد يكون فشلا فما الذي بوسعك أن تخمنه غير ذلك في مثل تبك الظروف؟

صاح بوارو وقد دبت فيه الحماسة فجأة: آه يا صديقي هل علتك أنك لا ترى؟ لقد كنت مغفلا ستا وثلاثين مرة! خلاياي الرمادية لم تعمل على الاطلاق فقد كان الدليل معي طوال الوقت.

-
أي دليل؟

-
علبة الحلوى! ألم تفهم؟ هل كان لأحد يمتلك كامل قوة بصره أن يرتكب خطأ كهذا؟ كنت أعرف أن المدام ديرولار تعاني من اعتام عدسة العين علمت ذلك من قطرات الأتروبين التي تستعملها كان في المنزل شخص واحد فقط ذو بصر ضعيف بحيث لا يستطيع أن يرى أي الغطاءين ينبغي وضعه على العلبة كانت علبة الحلوى هي التي وضعتني على طريق البداية في ذلك المسار ومع ذلك فقد فلت حتى النهاية -وباصرار- في ادراك مغزاها الكبير!

وكذلك فان تحليلي النفسي كان خاطئا فلو كان دوسان آلار هو المجرم لما احتفظ أبدا بقارورة تدينه ان عثوري عليها لديه كان دليلا على براءته كنت قد عرفت آنفا من الآنسة فيرجيني بأنه كان شارد الذهن لقد كانت هذه القضية التي رويتها لك بمجملها قضية تعسة! لم أرو هذه القصة الا لك أنت هل تفهمني؟ لم أقم بتخمين جيد فيها! امرأة عجوز ترتكب جريمة بكل تلك البساطة والذكاء بحيث أغدو أنا -هيركيول بوارو- مخدوعا تماما تبا! لا أتحمل التفكير فيها! عليك أن تنساها. أو... كلا، بل تذكرها وان اعتقدت في أي وقت بأنني أصبحت مغرورا وهو أمر غير محتمل ولكنه قد يقع...

أخفيت ابتسامة فيما تابع بوارو: حسنا يا صديقي ان رأيتني أصبحت مغرورا فما عليك الا أن تقول: "علبة الحلوى" اتفقنا؟

-
اتفقنا.

قال بوارو متأملا: لقد كانت تجربة مفيدة في نهاية المطاف! أنا الذي أملك دون شك أبرع دماغ في أوروبا في الوقت الحاضر أستطيع أن أكون متساهلا واسع الصدر.

تمتمت بهدوء: علبة الحلوى...

-
عفوا ماذا قلت يا صديقي؟

نظرت الى وجه بوارو البرئ وهو ينحني متسائلا فشعرت بتأنيب الضمير لطالما عانيت على يدي بوارو ولكنني أيضا -رغم عدم امتلاكي أبرع دماغ في أوروبا- أستطيع أن أكون متساهلا واسع الصدر!

أجبته كاذبا: لا شئ.

وأشعل غليونا آخر وأنا أبتسم مع نفسي.

النهايــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة

للمزيد من الروايات والقصص زوروا موقعنا :
http://www.TipsClub.com

Subscribe via email

Enter your email address:

Delivered by FeedBurner