علوم واسرار وعجائب الأمصار Headline Animator

الأربعاء، 12 يونيو 2013

سـرّالابتلاء ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) سورة الأنبياء: 35



سـرّالابتلاء

( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)

                                                            سورة الأنبياء: 35


تأليف
هارون  يحيى
ترجمة:
توفيق قاسم الكردي




حول  المؤلف
ولد الكاتب الذي يكتب تحت الاسم المستعار هارون يحيى في أنقرة عام  1956. بعد أن أنهى تعليمه الابتدائي والثانوي في أنقرة, درس الآداب في جامعة معمار سنان كلية الفنون الجميلة وفي قسم الفلسفة بجامعة استنبول. وبداية من الثمانينات شرع في كتابة جملة من المؤلفات التي تتناول القضايا الإيمانية والعلمية والسياسية. هارون يحيى كاتب مشهور بكتاباته التي تدحض الداروينية وتعرض لعلاقاتها المباشرة مع الإديولوجيات الدموية المدمرة.
يتكون الاسم المستعار من اسمي "هارون" "ويحيى" في ذكرى موقرة للنبيين اللذين حاربا الكفر والإلحاد, بينما يظهر الخاتم النبوي على الغلاف كرمز لارتباط المعاني التي تحتويها هذه الكتب بمضمون هذا الخاتم. يشير الخاتم النبوي إلى أن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية, وأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وفي ضوء القرآن والسنة وضع الكاتب هدفه المتمثل في نسف الأسس الإلحادية والشركية وإبطال كل المزاعم التي تقوم عليها الحركات المعادية للدين, لتكون له كلمة الحق الأخيرة, ويعتبر هذا الخاتم الذي مهر به كتبه بمثابة إعلان عن أهدافه هذه.
تدور جميع كتب المؤلف حول هدف واحد وهو نقل الرسالة القرآنية إلى الناس, وتشجيعهم على الإيمان بالله والتفكير في القضايا الإيمانية والوجود الإلهي واليوم الآخر.
            تتمتع كتب هارون يحيى بشعبية كبيرة عند شريحة واسعة من القراء تمتد من الهند إلى أمريكا, ومن انجلترا إلى أندونيسيا والبوسنة والبرازيل وإسبانيا, وقد ترجمت بعض كتبه إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية والعربية والبرتغالية والألبانية والروسية والأندونيسية.
         لقد أثبتت هذه الكتب فائدتها في دعوة غير المؤمنين إلى الإيمان بالله, وتقوية إيمان المؤمنين, فالأسلوب السهل والمقنع الذي تتمتع به هذه الكتب يحقق نتائج مضمونة في التأثير السريع والعميق على القارئ, حيث من المستحيل على أي قارئ أن يقرأ هذه الكتب ويتأمل في محتواها بشكل جدي أن يبقى معتنقا لأي نوع من أنواع الفلسفة المادية. ولو بقي أحد يحمل لواء الدفاع عنها, فسيكون ذلك من منطلق عاطفي بحت, لأن هذه الكتب تنسف تلك الفلسفات من أساسها. إن جميع الإيديولوجيات التي تقوم على نكران وجود الله قد دحضت اليوم والفضل في ذلك لله أولاً ثم لكتب هارون يحيى.
             لا شك أن هذه الخصائص مستمدة من حكمة القرآن ووضوحه, وهدف الكاتب من وراء نشر هذه الكتب هو خدمة أولئك الذين يبحثون عن الطريق الصحيح للوصول إلى الله تعالى وليس تحقيق السمعة أو الشهرة , بالإضافة إلى أنه لا يوجد هدف مادي من وراء نشر كتبه هذه.
وعلى ضوء هذه الحقائق, فإن الذين يشجعون الآخرين على قراءة هذه الكتب التي تفتح أعينهم وقلوبهم وترشدهم إلى طريق العبودية لله يقدمون خدمة لا تقدر بثمن.
من جهة أخرى, يعتبر تناقل الكتب التي تخلق نوعاً من التشويش في ذهن القارئ وتقود الإنسان إلى فوضى إيديولوجية, ولا تؤثر في إزاحة الشكوك من قلوب الناس مضيعة للوقت والجهد, أما هذه الكتب فمن الواضح أنها لم تكن لتترك هذا الأثر الكبير على القارئ لو كانت تركز على القوة الأدبية للكاتب أكثر من الهدف السامي الذي يسعى إليه, ومن يشك في ذلك يمكنه أن يلاحظ أن الهدف الوحيد لكتب هارون يحيى هو إلحاق الهزيمة بالكفر وتكريس القيم الإنسانية.
لا بد من الإشارة إلى أن الحالة السيئة والصراعات التي يعيشها العالم الإسلامي في يومنا هذا ليست إلا نتيجة الابتعاد عن دين الله الحنيف والتوجه نحو الإيديولوجيات الكافرة, وهذا لن ينتهي إلا بالعودة إلى منهج الإيمان والتخلي عن تلك المناهج المضللة, والتوجه إلى القيم والشرائع القرآنية التي عرضها لنا خالق الكون لتكون لنا دستوراً. وبالنظر إلى حالة العالم المتردية والتي تسير به نحو هاوية الفساد والدمار, هناك واجب لا بد من أدائه وإلا فلات حين مناص...
لا نبالغ إذا قلنا إنّ مجموعة هارون يحيى قد أخذت على عاتقها هذا الدور القائد, وبعون الله ستكون هذه الكتب الوسيلة التي ستحقق شعوب القرن العشرين من خلالها السلام والعدل والسعادة التي وعد بها القرآن الكريم.
          تتضمن أعمال الكاتب: النظام الماسوني الجديد, اليهودية والماسونية, الكوارث التي جرتها الدارونية على العالم, الشيوعية عند الأمبوش, الإديولوجية الدموية للداروينية, الفاشية, الإسلام يرفض الإرهاب, اليد الخفية في البوسنة, وراء حوادث الإرهاب, وراء حوادث الهولوكوست, قيم القرآن, الموضوعات 1-2-3, الرومنسية: سلاح بيد الشيطان، حقائق 1-2, الغرب يتجه إلى الله , خديعة التطور, أكاذيب التطور, الأمم البائدة , لأولي الألباب, انهيار نظرية التطور في عشرين سؤالاً , إجابات دقيقة على التطوريين, النبي موسى, النبي يوسف, العصر الذهبي, إعجاز الله في الألوان, العظمة في كل مكان, حقيقة الحياة الدنيا, القرآن طريق العلم, التصميم في الطبيعة , بذل النفس ونماذج رائعة من السلوك في عالم الحيوان , السرمدية قد بدأت فعلاً, خلق الكون, لا تتجاهل, الخلود وحقيقة القدر, معجزة الذرة, المعجزة في الخلية, معجزة الجهاز المناعي, المعجزة في العين, معجزة الخلق في النباتات, المعجزة في العنكبوت, المعجزة في البعوضة, المعجزة في نحل العسل, المعجزة في النملة, الأصل الحقيقي للحياة, الشعور في الخلية, سلسلة من المعجزات, بالعقل يعرف الله, المعجزة الخضراء في التركيب الضوئي, المعجزة في البروتين, أسرار  د.ن.أ.
         وكتب الكاتب للأطفال: أيها الأطفال كذب دارون ! , عالم الحيوان, عظمة السموات, عالم أصدقائك الصغار, النمل, النحل يبني خليته بإتقان , بناة الجسر المهرة: القنادس .
          وتتضمن أعمال الكاتب الأخرى التي تتناول موضوعات قرآنية: المفاهيم الأساسية في القرآن, القيم الأخلاقية في القرآن, فهم سريع للإيمان 1-2-3, هجر مجتمع الجاهلية, المأوى الحقيقي للمؤمنين: الجنة, القيم الروحية في القرآن, علوم القرآن ,الهجرة في سبيل الله, شخصية المنافقين في القرآن, أسرار المنافق, أسماء الله الحسنى, تبليغ الرّسالة والمجادلة في القرآن, المفاهيم الأساسية في القرآن, إجابات من القرآن, بعث النار, جهاد الرسل, عدو الإنسان المعلن:الشيطان, الوثنية, دين الجاهل, تكبر الشيطان, الصلاة في القرآن, أهمية الوعي في القرآن, يوم البعث, لا تنس أبداً, أحكام القرآن المنسية, شخصية الإنسان في المجتمع الجاهلي, أهمية الصبر في القرآن, معارف عامة من القرآن, حجج الكفر الواهية, الإيمان الكامل, قبل أن تتوب, قالت رسلنا, رحمة المؤمنين, خشية الله, كابوس الكفر, عودة عيسى عليه السلام, الجمال الحياة في القرآن, باقات من جمال الله 1-2-3-, مدرسة يوسف, الافتراءات التي تعرض لها الإسلام عبر التاريخ, أهمية اتباع كلام الله , لماذا تخدع نفسك, كيف يفسر الكون القرآن, بعض أسرار القرآن, الله يتجلى في كل مكان, الصبر والعدل في القرآن, أولئك الذين يستمعون إلى القرآن.

إلى القارئ
السبب وراء تخصيص فصل خاص لانهيار النظرية الدارونية هو أن هذه النظرية تشكل القاعدة التي يعتمد عليها جميع الفلاسفة الملحدين. فمنذ أن أنكرت الدارونية حقيقة الخلق, وبالتالي حقيقة وجود الله , تخلى الكثيرون عن إيمانهم أو وقعوا في التشكيك في وجود الخالق خلال المئة والأربعين سنة الأخيرة. لذلك يعتبر دحض هذه النظرية واجباً يحتمه علينا الدين, وتقع مسؤوليته على كل واحد منا. قد لا تسنح الفرصة للقارئ أن يقرأ أكثر من كتاب من كتبنا, لذلك ارتأينا أن نخصص فصلاً نلخص فيه هذا الموضوع.
تم شرح جميع الموضوعات الإيمانية التي تناولتها كل هذه الكتب على ضوء الآيات القرآنية وهي تدعو الناس إلى كلام الله والعيش مع معانيه. شرحت كل الموضوعات التي تتعلق بالآيات القرآنية بطريقة لا تدع مجالا للشك أو التساؤل في ذهن القارئ من خلال الأسلوب السلس والبسيط الذي اعتمده الكاتب في كتبه، ويمكن للقراء في جميع الطبقات الاجتماعية والمستويات التعليمية أن يستفيدوا منها ويفهموها. هذا الأسلوب البسيط يمكن القارئ من قراءة الكتاب في جلسة واحدة, حتى أولئك الذين يرفضون المسائل الروحانية ولا يؤمنون بها تأثروا بالحقائق التي احتوتها هذه الكتب ولم يستطيعوا إخفاء اقتناعهم بها.
              يمكن للقارئ أن يقرأ هذا الكتاب وغيره من كتب المؤلف بشكل منفرد أو يتناوله من خلال نقاشات جماعية. أما أولئك الذين يرغبون في الاستفادة منه فسيجدون المناقشة مفيدة جداً إذ أنهم سيتمكنون من الإدلاء بانطباعاتهم والتحدث عن تجاربهم للآخرين.
            إضافة إلى أن المساهمة في قراءة هذه الكتب التي كتبت ابتغاء وجه الله وعرضها يعتبر خدمة للدين. عرضت الحقائق في هذه الكتب بأسلوب غاية في الإقناع, لذلك نقول للذين يريدون نقل الدين للآخرين: إن هذه الكتب تقدّم لهم عوناً كبيراً.



المحتويات
المقدمة...............................................................
الدنيا دار امتحان ....................................................
سر الابتلاء .........................................................
المسلم أوقات الشدائد ................................................
موقف غير المؤمنين إزاء الصعاب .................................
استمرار الامتحان حتى الموت .....................................
الخاتمة .............................................................
خديعة نظرية التطور................................................




المقدمـة
    لا بد من وجود شيءٍ في حياتك قد بذلت الوقت والجهد معا من أجل تحقيقه. تذكر مثلاً عندما كنت طالبا في المدرسة وقد توالت عليك الامتحانات وذلك لإعدادك للانتساب لجامعة محددة وفق اختيارك الشخصي.
    يعتبر معظم الشباب هذه الامتحانات نقاط تحول في مسيرة حياتهم لأنها ستحدد شكل حياتهم القادمة. ويمضون السنين استعداداً لهذا الحدث, فيسهرون لياليهم, وتقل نشاطاتهم الخاصة وتتقلص إجازاتهم وأوقات مرحهم. ويظلون نتيجة تركيزهم الكلي لدخول الجامعة يتحلون بالصبر ويحدوهم الأمل حتى ينجزوا أهدافهم.
    والآن  تأمل معي في أناس كان أكبر همهم امتلاك منزل جميل ملائم, فلكي يمتلكوا بيت الأحلام هذا لا بد من توفر القدرة المالية لديهم لشرائه, لذا تراهم يصلُون الليل بالنهار ليحصلوا على عملٍ ثم يأخذون بالترقي في المناصب العليا وينالون رواتب مرتفعة حتى يصبحوا قادرين على شراء أو بناء بيت الأحلام، وذلك بعد انقضاء سنين من بذل الوقت والجهد.
هذا مثال فقط من بين أناس اجتهدوا بتصميم ثابت ولسنين طويلة كي يتغلبوا على كل التحديات التي قد تقف حجر عثرة بينهم وبين تحقيق أغراضهم وأهدافهم التي أولوها هذه القيمة الكبيرة. وإذا حاول هؤلاء الناس بالإضافة، إلى ذلك المضي في عملية تحسين أوضاعهم المادية ومكانتهم الاجتماعية, ومزيد تلميع صورتهم بين الناس فما عليهم إلا أن يبذلوا مزيدا من الجهود المضنية متغلبين على ما يعترضهم من صعوبات ... ومثلما يقال فقد "اقتطعوا جزءا من ذواتهم".

    ولنتأمل معا الفكرة التالية: ما سبق من أمثلةٍ يعبر عن الرغبات العابرة في هذه الحياة الدنيا والتي ستزول بموت الإنسان, أو قد تضيع فجأة نتيجة حادث طارئ. وهناك بعض الأمثلة الأخرى: شاب يعمل بمثابرة سنوات عديدة ليجتاز الامتحان, ولكن للأسف قد يقضي نحبه حتى قبل دخول الامتحان. وهذا رجل لم يأل جهدًا في سبيل شراء منزل مناسب، ولكن فجأة شبّ حريق في منزله فقضى على جميع آماله.
    أكثر الرغبات التي نلهث وراءها في هذه الحياة الدنيا, مهما بذلنا من مشقة في سبيل تحصيلها, ما هي إلا متع زائلة. ولكن هناك حياة أخرى حقيقية دائمة ذات طيبات خالدة, حياة  يزيد عطاؤها ولا ينفد, حيث ينعم الإنسان فيها بالخلود, إنها حياة ما بعد الموت، هي الحياة التي يبذل المؤمنون قصارى جهدهم للوصول إليها, ويعتبرونها أسمى أمانيهم وأهدافهم واضعينها على الدوام نصب أعينهم.
    لذا, فهذه الحياة الدنيا هي ميدان الاختبار الذي ينبغي لبني البشر أن يجتازوه  ليحددوا أية حياة خلود سوف يحيونها في الآخرة , فهذا الامتحان الذي يخضعون له في الحياة الدنيا سيؤهلهم لدخول الحياة السرمدية في الآخرة. فما عليك والحال كذلك إلا اتباع رضوان الله عز وجل. وفي الحقيقة ما الحياة الدنيا سوى اختبار انتقالي وفترة تدريبية وهبها الله سبحانه لكل إنسان  ليكون مسئولا عن التدبر فيها للوصول إلى معرفة الله سبحانه, وإطاعة أوامره والعمل على كسب رضاه, والتحلي بالفضيلة والصبر ومبادئ الأخلاق في مواجهة أي طارئ قد يحدث له طالما بقي على وجه هذه الأرض. ولا يعرف السر العظيم لهذا الامتحان سوى المؤمنين. فالمؤمن على يقين أن كل شيء أدرج في الامتحان هو من قدر الله سبحانه ابتداءً, ليقوى على مواجهة أي طارئ برباطة جأش كبيرة.
    فهؤلاء الذين أدركوا هذا السر وفقاً لهذه الحقيقة الخفية الجلية في آن واحد, سينالون نعيماً مقيماً ما له من نفاد.
    وهذا الكتاب يميط اللثام عن هذه الحقائق لأولئك الذين يجهلون ذلك السر العظيم, ويمضون أعمارهم دون التفكر في هذه الحقيقة الجلية, ويحثهم أن يضعوا لأنفسهم هدفاً  يكون أسمى ما في هذا الوجود، قال تعالى:

( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)  ) سورة البلد: 11-20



   الدنيا  دار  امتحان
    خلق الله سبحانه وتعالى البشر, وجميع المخلوقات الأخرى, لغرضٍ أوضحه سبحانه في القرآن الكريم الذي أنزله هدىً للناس كافةً:
( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) سورة المؤمنون: 115

( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) سورة الذاريات: 56


    إذن, فما وجد الإنسان إلا  لعبادة الله  سبحانه وتعالى، وأعمار البشر تقدر تقريبا بين ستين وسبعين عاماً, وما أشبه عمر الإنسان بالساعة الرملية حيث ينصرم العمر لحظة فلحظة دون توقف. فكل إنسان يمكث في هذا العالم مدة زمنية لا يعلم مداها إلا الله تعالى، ويجري ذلك تبعاً للقدر الذي حدده سبحانه، ولا يملك أحدٌ من الخلق له  تبديلاً. وكل شيء آيلٌ  لنهايته المحتومة عند  حلول  الأجل (... وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ) سورة الرعد: 26
    فكل شيء هنا ينمو ثم  يذوي، وهو متوجهٌ سريعاً نحو دارالفناء. فالزمن كفيلٌ بإفناء الأحياء والأشياء, لذا, فالمتمسكون بهذه الحياة الزائلة هم إلى خسران مبين.
    وكثيراً ما كان المفكر الإسلامي العظيم بديع الزمان النورسي يذكّـر قرّاءهُ  بمعنى الفناء الذي يميز هذه الحياة الدنيا ويحثهم على بذل أقصى ما بوسعهم  لينالوا شرف نعيم الحياة الآخرة الحقيقية. يقول الشيخ النورسي رحمه الله تعالى: "ما الحياة الدنيا سوى بيت ضيافةٍ والإنسان نازلٌ فيه لمدة وجيزةٍ وهو مثقلٌ  بالواجبات, فينبغي أن ينشغل بالإعدادات الضرورية استعداداً للحياة السرمدية" 1.
    فبديع الزمان يشبّه قِصَرَ الحياة الدنيا  بزيارةٍ مؤقتةٍ. ويقول في مثالٍ  آخر: "أيا روحي الحائرة ويا صديقي اهتد إلى رشدك ولا تبعثر جوهر حياتك وقدراتك على شهوات الجسد في هذه الحياة الزائلة  كالأنعام أو أدنى منها منزلةً. وعلى فرض أنك أقوى من البهيمة خمسين ضعفاً, فإنك ستهوي خمسين منزلة ًدون منزلتها".2  
    وكما قال النورسي رحمه الله تعالى فالإنسان إنما ركبت فيه هذه الصفات المعجزة  كالذكاء والضمير وحسن الفهم لا ليلهث وراء الشهوات الحسية المؤقتة لحياةٍ  دنيوية واضحة العجز, ولكن لينال بها جمال الخلود, وبهذا فحسب يجتاز الإنسان امتحان الحياة الدنيا.
    يُمتحنُ الناسُ وفقا لاستجابتهم لمجريات ما لاقَوهُ  في الحياة الدنيا وما مارسوه ضمن دائرة قيمهم الأخلاقية. ومن الواضح أنه لا يكفي لأحدهم أن  يقول "أنا مؤمن" بل  ينبغي أن يترجم ذلك الإيمان قولاً وعملاً وسيُكشفُ يوم القيامة كل ما عملوا من شؤونهم الخاصة والعامة, وسيُقدمُ لهم  كشف مفصل لما عملوه. فلن يُظلموا شيئا, والحال كذلك  أبداً, والقرآن الكريم يقول: ( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) النساء: 49.
    فالذين  أثقلت أعمالُ  البر موازينهم  سيكافئون بنعيم الجنة المقيم, أما الذين اتخذوا الشيطان والظلم لهم سبيلاً  فمصيرهم نار جهنم  خالدين فيها. فما خلق الله الحياة الدنيا سوى ابتلاءً وتمحيصا. يقول عزّ من قائل: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) سورة الملك: 2

   

مقايضة الحياة الآخرة الباقية بالحياة الدنيا الفانية
     من أعظم أخطاء اللادينيين اعتقادهم أن الحياة الدنيا دار خلود وبقاء, غير مدركين أنهم يخضعون في هذه الحياة لامتحانٍ انتقالي, لهذا فشهوات الدنيا الفاتنة تضلهم معتقدين أن ما كسبوه إنما هو نتيجة حتمية لما بذلوه من جهد, ولذلك يُداخلهم إحساسُ  الاكتفاء بذواتهم. وينسى الناس في المجتمعات الكافرة الحياة الآخرة فينشغلون في محاولة الحصول على ملذات يحسبونها ذات قيمة، بينما يخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) ) سورة آل عمران: 14-15
    فللناس كما أوضحت الآية رغباتٌ كثيرةٌ, ويسعون لنيل ملذاتٍ وأغراضٍ لا تعود عليهم بكبير فائدةٍ, لأن حياتهم الحقيقية تنتظرهم هناك في الدار الآخرة حيث البقاء والخلود. والآيات التالية توضح هذا المفهوم، يقول تعالى: ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)) سورة الكهف: 14-15
    وكما بين النص القرآني, فكل ما يوجد في الدنيا من أموال وثروات وزوجات  ومنازل وجاه ووظيفة وغير ذلك, ما هو إلا  لعبٌ عابر مصيره الزوال مع موت الإنسان وحلول أجله المحتوم.
    ولكنّ كثيرا من الناس لا يدركون أن هذه الأعراض مصيرها الزوال, فينغمسون في تحصيل المزيد من الملذات المادية, والمحرمات, ويسعون في الحصول على السمعة والشهرة بين الناس, فهم مشدودون عاطفيا لهذه المعاني, متناسين تماماً كل ما يشدهم إلى الآخرة دار الخلود والبقاء. ولهذا, فهم لا يعدون للآخرة عدتها معتقدين أن الموت يعني النهاية والفناء.
    وكما قال العلامة بديع الزمان, فالموت لا يعني مجرد الانفصال عن هذه الدنيا أو حتى الفناء, بل هو نهاية ابتلاءات الحياة الدنيا, وهو المكان الذي ينال فيه الناس جزاء ما عملوا في الحياة الدنيا:
"فلم يعد الموت مخيفا كما يتجلى ظاهريا, وكما أثبتنا بالأنوار التي أشرقت على رسائل النور  لجمهور المؤمنين بيقين لا يعتريه ريب ولا شك في أن الـموت للـمؤمن خلاص وانعتاق من كلفة وظيفة الـحياة ومشقتها.. وهو تسريح من العبودية التي هي تعليم وتدريب في ميدان ابتلاء الدنيا.. وهو باب وصال لالتقاء الأحبة والـخلاّن الراحلين إلى العالـم الآخر.. وهو وسيلة للدخول في رحاب الوطن الحقيقي والـمقام الأبدي للسعادة الـخالدة.. وهو دعوة للانتقال من زنزانة الدنيا إلى بساتين الـجنة وحدائقها.. وهو اللحظة الواجبة لتسلم الجزاء على الـخدمة الـتي تم أداؤها، ذلك الجزاء الذي يغدق بسخاء من خزائن فضل الـخالق الرحيم" 3.
فما دامت هذه هي حقيقة الـموت – على الوجه الصحيح – فلا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه شيء مـخيف، بل يـجب اعتباره تباشير رحـمة وسعادة.
ومن الخطأ الفادح أن نظن أن هذه الدنيا دار بقائنا إذا قارناها بخلود الآخرة ودوامها, ويتبين بالمقارنة أن حياتنا الدنيا لا تدوم سوى لحظات قصيرة. يقول النورسي رحمه الله:
"وكذا يخبر بصدق عن مستقبل، ليس مستقبل الدنيا بالنسبة إليه إلا كقطرة سراب بلا طائل بالنسبة إلى بحر بلا ساحل. وكذا يبشّر عن شهود بسعادة، ليست سعادة الدنيا بالنسبة إليها إلاّ كبرقٍ زائلٍ بالنسبة إلى شمس سرمدية". 4
والمسلمون, بعيداً عن هؤلاء الذين تجردوا من أخلاقيات القرآن, عندما تطالعهم فكرة الموت لا ينفرون مذعورين, بل يستشرفونها بشوق عظيم آملين أن ينالوا كرامةً من بارئهم, جزاء ما قدموا من بر وخير في الحياة الدنيا. فقد عاشوا الحياة الدنيا وكلهم أملٌ وثقة بالله سبحانه أن يدخلهم الجنة حيث النعيم والمسرات التي لا ينضب معينها.
وترينا الآيات التالية صورة أولئك النفر الذين كان جل همهم منصبٌ على تحقيق ملذات الحياة الدنيا ومتاعها: ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ) سورة البقرة: 175
وقال عنهم, في آية أخرى, أنهم قد ارتكبوا خطأً فادحا. والمثال التالي يدلل على مدى الخسارة الكبيرة التي تكبدوها.
والآن  أمعن معي النظر في رجلين أوتيا نصيباً من المال لينفقَ كلٌ منهما كما يطيب له, فبعثرَ أحدهما ماله هباءً  حتى  أتى على آخره, بينما أنفقهُ الآخرُ محققاً منافع جمّة لنفسه وللإنسانية على حدٍ سواء, ولأحدنا أن يسأل: ما طبيعة  شعور الأول إذا نُوقشَ عند الحساب, لن تكون سوى الحسرة البالغة ! .
لهذا, فكل ما نملكه من عقارات وممتلكات ومباني، وما نتمتع به من شهرة واحترام، أو جمال، وجميع النعم الأخرى التي منحت للإنسان في هذه الحياة الدنيا ما هي إلا أدوات لكي يعدّ نفسه للحياة الآخرة. وقد اغتنم المسلمون الأوائل هذه الوسائل بأقصى ما لديهم من جهدٍ لأنهم أدركوا هذه الحقيقة العظيمة.
أما الجاحدون، مثل هؤلاء الذين ينفقون أموالهم يمنة ويسرة دون أي تقدير أو تفكير تلبية لرغباتهم الدنيوية فهم يقضون مدة حياتهم القصيرة مستهينين بكل القيم، وبذلك فهم سوف يعانون غداً الخسران المبين  في الآخرة التي هي دار الخلود.
ويصف القرآن الكريم لنا حالتهم هذه فيقول: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ) سورة الكهف: 103-105.إنهم الذين ضلَّ عملهم في الحياة الدنيا -وهم مشركو قومك وغيرهم ممن ضلَّ سواء السبيل، فلم يكن على هدى ولا صواب- وهم يظنون أنهم محسنون في أعمالهم.
وهؤلاء الذين لم تغرهم الحياة الدنيا وتيقنوا أن الآخرة هي الباقية, أدركوا أن طيبات الدنيا زائلة لا محالة, فبذلوا جهدهم لينالوا طيبات الجنة ونعيمها, لهذا فقد ربحت تجارتهم مع  الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ) سورة التوبة: 111
الله يبتلي بالخير والشر
يتم اختبار المؤمنين في حياتهم الدنيا, كما أسلفنا من قبل, وفق أشكال متنوعة من الابتلاءات أخبرنا القرآن الكريم أنها تتراوح بين معياري الخير والشر: ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) ) سورة الأنيباء: 34-35
فالناس عرضة لأن  يُمتحنوا بشتى ألوان الابتلاءات, فعليهم, على سبيل المثال, عندما يتمتعون بفائض ثرواتهم أن يفعلوا ذلك متحلين بأخلاق دينهم الحنيف كي ينالوا رضى ربهم  عز  وجل, مخلصين له أعمالهم ونواياهم, مذعنين لأوامره متبعين إرشاده سبحانه. ولو  فتنت  ملذات الحياة الدنيا الزائلة الناسَ فانغمسوا فيها وخاضوا غمارها لأذهلتهم عن جوهر الحقيقة التي خلقوا من أجلها, ولكن مهما تكاثرت النعم  بأيدي المؤمنين فسيبقون ممتنين شاكرين لله عز وجل مدى حياتهم.
وقد يمتحن الناس كذلك بالمرض والكوارث والضغوط التي يمارسها الكفار عليهم, ويمتحنون بالسيء من القول والسخرية, ولكن المسلمين يدركون أن هذه الإبتلاءات كلها  جزءٌ من الامتحان, لذا يتمسكون بالصبر فلا يمسهم السوء ويكونون هم الفائزون. وقد عقد هؤلاء المؤمنون صفقة  بيعٍ مع بارئهم عز وجل مقايضين  الحياة الدنيا  بخلود  الآخرة, وهذا القرآن الكريم  يقول: ( لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) ) سورة التوبة: 88-89.
أوضحت لنا الآيات  السابقة أن الحياة الدنيا  تعتبر  بمنظور المؤمنين ميدان جهادٍ في  الله لا يفترون حتى ينالوا رضوانه سبحانه. ويذكرنا بديع الزمان رحمه الله تعالى أن الدنيا  دار كدح وطاعـة يحياها الناس وهي مثقلة  بالمكاره والشهوات، وأن جزاء الذين تحملوا مشقاتها ومصائبها بصبر جميل جزاء عظيم , فانظر ماذا يقول:
"إنّ دار الدنيا هذه ما هي إلاّ ميدان اختبار وابتلاء، وهي دار عمل ومـحل عبادة، وليست مـحل تـمتع وتلذّذ، وهي ليست مكانا للأجر ونيل الثواب. فما دامت الدنيا دار عمل ومحل عبادة، فالأمراض والـمصائب، ما لم تكن في الدّين، وبشرط الصبر عليها تكون متلائمة جدّا مع ذلك العمل، بل منسجمة تماماً مع تلك العبادة، حيث أنها تمدّ العمل بقوة وتشدّ من أزر العبادة، فلا يجوز التشكي منها، بل يـجب التحلي بالشكر لله تعالى، فتلك الأمراض والنوائب تحوّل كل ساعة من حياة المصاب عبادة يُنال الأجر عليها ".5
إنه من الأهمية بمكان أن نتدبر هذه الكلمات الرّشيدة. وكما بينا سابقا، فالناس ملزمون  بطاعة الله والاستسلام لأمره والبقاء على علاقة قوية بخالقهم سبحانه مهما تغيرت الظروف وتلونت. ولعل الصبر على المكاره والمنغصات التي تحفل بها الحياة الدنيا هو إحدى أوجه هذه العلاقة المتينة مع الله سبحانه وتعالى. وقد يحمل الزمن لنا مكاره لم تكن في الحسبان, فتنتهي أو تدوم إلى ما شاء الله أن تدوم. فمثلاً, قد يفتقر غنيٌ , وقد يواجه إنسانٌ ناجحٌ فشلاً مفاجئاً, وقد يفقد آخر محبوبه, أو يصبح رهن المرض أو الإعاقة. وبغض النظر عن مفهوم الاختبار, فإن الله سبحانه وعد الذين يحسنون الصلة به ويبقون مقيمين على طاعته, وعدهم بنعيم لا نفاد له: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) ) سورة آل عمران: 185-186.
سر الابتـلاء
يخبرنا الله تعالى أن المؤمنين سيخضعون في حياتهم لاختباراتٍ كثيرةٍ, وستكون أنفسهم وأموالهم موضع اختبار, وقد ينصب لهم الكفار شراكاً كثيرةً, أو يتهمونهم باطلا وزورًا, وبمعنىً  آخر, يواجهون مكاره جمةً في كل مراحل حياتهم, لكن المهم هو متابعة سلوكهم الإيماني انسجاما مع أخلاقيات القرآن الكريم في أوقات الشدائد, فيبقون لربهم ذاكرين, ولإنعامه شاكرين, مطمئنين أن كل ما يصيبهم سيكون عقباه الخير المحض.
ومن  البديهي أن يتحلى المؤمن بهذه الأخلاق وهو في رحب العيش ورغده، عما لو حدث ذلك كله وقت الشدائد والكربات. وعدم مساومة المؤمنين على سلوكهم الأخلاقي المستقيم هو أنصع دليلٍ على قوة إيمانهم والثبات عليه. فالمسلمون الذين تجرعوا مرارة الصبر على الفقر والجوع, والخوف والخسارة المعنوية والمادية, ومكابدة المرض, وتهديد الكفار لهم, والافتراء عليهم, ونصب  شراك  الخديعة, سينالون  أعظم  الثواب جزاء تمسكهم بالفضائل الخلقية.
ويقدم لنا القرآن الكريم نماذج من الظلم والطغيان الذي عاناه الأنبياء عليهم السلام ومن كان معهم من المؤمنين. وقصة طغيان أحد الفراعنة على شعبه هي إحدى هذه النماذج القرآنية. ويعلمنا الله سبحانه أن ذلك كله إنما هو تمحيص منه لعباده المؤمنين: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)) سورة البقرة: 49.
أوضحت  هذه  الآية  أن كل ما يضعه الكفرة من عوائق في طريق الخير ماهو إلا امتحان  لأهل  الإيمان. فثباتهم على الفضيلة وشجاعتهم, وسكينتهم عند تعرضهم للملمات والابتلاءات, ستضاعف ثوابهم وترفع درجاتهم في جنات الخلد. ويصف لنا القرآن الكريم حال المؤمنين وما سيعانونه, وصور ثباتهم على الحق فيقول: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157) ) سورة البقرة: 155-157.
إن الثقة بالله والاستسلام لأمره المذكورين في الآية السالفة لهي أروع  مثال يحتذي به جميع المسلمين. ولكن الكافرين لا يفقهون معنى لهذه الثقة لأنهم يتصرفون وفق معاييرهم الفاسدة المنحرفة, وهم يظنون أن الطريق الوحيد لجمع الثروة هو انغماسهم في حمأة رذائلها, فلا يستطيعون مواجهة الشدائد فيفترسهم الخوف ثم  ينبذبون إيمانهم والعياذ بالله تعالى.
أما المسلمون الذين فهموا سر الاختبارات في الحياة الدنيا, هم يعرفون أن أفضل ما يمكن عمله في مثل هذه الظروف هو الاحتساب والصبر. فهم يصطبغون  بأخلاق القرآن ويبذلون ما بوسعهم لترسيخها في نفوس الآخرين. إذاً فكل المشكلات التي  تعتريهم   إنما تقدم لهم دليلاً إضافياً أنهم ماضون على صراط الله المستقيم.
وكثيراً ما يخبرنا ربنا عز وجل في القرآن الكريم عن السنن التي لا تبديل لها ولا تحويل على مدار التاريخ. وتعرض المؤمنين لألوانٍ من الشدائد والكرب بسبب شتى أصناف المظالم التي ينزلها بهم الكافرون, هو إحدى هذه السنن, دون أن ينجز الكفرة أياً من أغراضهم: وهذه واحدة  من بين الابتلاءات التي نبه الله تعالى المؤمنين على إمكانية مواجهتها, وأنهم سيدخلون الجنة  إذا صبروا في مواجهتها كما فعل  أسلافهم من قبل.

الإذعان  للقــدر
والقدر واحدٌ من أهم أسرار العقيدة الإسلامية, فالمسلمون كافة يعرفون أن الله سبحانه قد خلق كل شيء بقدره, وما يتحرك ساكنٌ إلا وفق مشيئتهِ سبحانه. والله – كما يخبرنا القرآن – هو بارئ الحياة الإنسانية بأشكالها المتنوعة, وما يقع في ملكهِ سبحانه إنما هو تحقيقٌ لهذه المشيئة. فليس لأحدٍ القدرة على الإخبار عن المستقبل لأن الناس مكبلين بأصفاد اللحظة, وليس بوسعهم التكلم إلا بمنظور لحظتهم الراهنة. ولأن المستقبل من مكنون عالم الغيب, فهم غير مدركين غالباً, وربما على المدى الطويل أهمية ما يواجهون من أحداث حياتهم أو حتى إيجابياتها. ولكن الله جلت قدرته خلق الزمان, ويرى الأشياء من خارج حدود الزمان. ويحسن بنا أن نعرف القدر بأنه علم ُ الله بالحوادث ماضيها ومستقبلها وما يمكن أن يتمخض عنها في لحظةٍ واحدة.(لمزيد الاطلاع حول هذا الموضوع ارجع إلى كتابي هارون يحيى: "لا محدودية الزمان" و "حقيقة القضاء والقدر".
وهكذا, فالله يعلم بداية الابتلاءات الإنسانية ونهايتها, وماضي الزمان ومستقبله ولحظته الراهنة. فكل شيء قد تم وأنجز بعلم الله سبحانه, بغض النظر عن ماضي الزمان ومستقبله. أما الإنسان فلا يعلم لضعف إمكاناته وقصورها من الأحداث إلا ما يمارسه ضمن إطار الزمن.
أما الكفار, فليس لهم من معرفة القدر أدنى نصيب لأنهم على جهلٍ مطبق بكنه حقيقته, في حين أن معرفة القدر هذه تجعل المسلمين يواجهون المكاره والابتلاءات بصبر جميل  كما نبه القرآن في سورة التغابن: ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)) سورة التغابن: 11.
فالمؤمنون يعيشون وهم مطمئنون أن ما يحدث لهم هو أمرٌ مقدرٌ حسمه الله سبحانه بسابق علمه. فهو سبحانه قدرعلى المؤمنين أقضية متباينة, ولطّف من وقعها عليهم برحمته ليقووا على تحملها ويتقبلوها متمسكين بإيمانهم واضعين أنفسهم في دائرة عنايته. هؤلاء قد آمنوا بربهم حقاً  وصدقاً, وأسلموا قيادهم له, يرون ما يجري لهم من متغيراتٍ فيتقبلونها بهدوء وسكينة لأنهم يعلمون وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف, أن الأمر أشبه ما يكون - ولله المثل الأعلى- بمن يجلس متراخياً في صالة يشاهد فلماً, فهو يتابع بثقة كاملة الممثلين وأدوارهم وقد رسمت من قبل وحسمت, فالمشاهد قد تكون مليئة بالحركة والرعب, وقد تكون مفعمة بالسكينة والمسرة, ولكن يبقى هنا في نفوس المؤمنين شغف الإيمان ومسرته. أما مشاهد الصراع فقد أعدت وأحكمت لتشغلَ أصغر حيزٍ ضمن مكونات اللوحة وتفصيلاتها. وفي النهاية فإن الجزئيات والتفاصيل منضوية في علم الله سبحانه وتعالى.
فالمسلمون الذين فهموا حقيقة القدر وأدركوا سرّ الابتلاءات, يرون في الكوارث؛ كالمجاعة والفقر جانباً  إيجابياً  فلا يضيقون به ذرعاً, واعين أن سلوكهم الأخلاقي الذي يُبدونه  حيال الابتلاءات أمرٌ  بالغُ الأهمية في نظر الله سبحانه. فعندما يُواجه المؤمنون بمثل هذه  المكاره, لا يكونون لقمةً سائغةً للاكتئاب والضغوط , والآلام والخوف والهلع لأنهم على يقين أن الله سبحانه سيبدل كل هذه المصاعب لتصبحَ خيرًا ويسرًا. ويوجه الله تعالى الخطاب للمؤمنين  قائـلاً: ( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) ) سورة النساء: 141.
وينبغي أن ندرك هنا أن كل ما ينزل بالمسلمين في هذه الدنيا من مصائب وفقد للممتلكات وضعف في البدن أو مرض أو حتى العجز والموت, ينبغي أن لا يعتبروها بالضرورة مؤشرات سيئة، بل هي امتحانات تجري بعلم الله تمحيصاً لإيمانهم بالله عز وجل. فلو صبروا على هذه الاختبارات وتجاوزوها بسلامٍ, فإنّ لهم أجراً عظيماًعند الله في الدنيا والآخرة, وسينالون في نهاية هذه الاختبارات الانتقالية  جزاءهم متمثّلاً في حياةٍٍ خالدة سرمديةٍ في جنات النعيم.
فيصبح المؤمنون المدركون لهذه الحقيقة أكثر صبرا عندما يواجهون الشدائد في حياتهم, وبالمقابل تفشل خططُ الكفار وتُحبطُ  كل جهودهم. وعند رؤية هذا الإخلاص والصبر والرّضا  لدى المؤمنين, يدرك الكفار أنهم عاجزون عن أن يسببوا لهم أي أذى. وتفصحُ العبارات التي ينطق بها المؤمنون في مواجهة أي وضعٍ متأزم عن مدى استسلامهم لربّهم وثقتهم به عزّ وجل. ويتلوا علينا القرآن الكريم بعضاً من هذه العبارات: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)) سورة إبراهيم: 13

( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (51) ) سورة البقرة: 51.

وهذا الموقف  هو النتيجة الطبيعية  لإذعـان المؤمنين للقدر الذي كتبه الله عليهم, فكل من وثق بالله وتوكل عليه لن يداخله الخوف والحزن, والقرآن يعلنُ:

( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) ) سورة الأحقاف: 13.

 ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(112) ) سورة البقرة:112.  

 ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)) سورة يونس: 63-64.

ويكشف الله لنا في آياتٍ أخرى أنّ عباده الذين آمنوا به وأسلموا له قيادهم قد استمسكوا بحبل الله المتين:

( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (22) ) سورة لقمان: 22.


 ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)(   سورة البقرة: 256.


النظر إلى  الأحداث باعتبارها منتهية
عندما يدرك المؤمنون أنهم يُمتحنون في هذه الحياة الدنيا, فإنهم يشهدون الأحداث من منظور المستقبل, وماذا يعني ذلك ؟ الحقيقة أنه لا عبرة لِعِظَمِ المشقات ومدى شدتها طالما أنها  سوف تنتهي وتزول, كأن يُتهم أُناسٌ بجناية زائفة فيعانون من جرائها ألوان الظلم والجور, ولكن لا بد للحقيقة أن تظهر أخيراً. وإذا لم ينته الظلم في هذه الدنيا, فسينال الذين تسببوا في وقوعه عقوبة ما قدمته أيديهم يوم القيامة. ويتطلع أولئك الذين عانوا من الظلم إلى اليوم الذي ينالون فيه جزاء صبرهم واحتسابهم. ويمر الوقت مسرعاً, وتنتهي كل مشكلة كطرفة عين. وقد أوضح القرآن لنا أن الله عز وجل وعد أن يجعل نهاية كل اختبارٍ يُمتحن  فيه المسلم برداً عليه وسلاماً:

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) ) سورة الشرح: 5-6.

لذا, فالمؤمنون يثقون في عدالة الله المطلقة, منتظرين الفرجَ , دون أن يفقدوا الأمل. فهم واثقون دائماً أن اليُسرَ  لا بد  أن يعقبَ العسر, سواء في هذه الدنيا أو  في الآخرة. وهذا ما قصدناه من رؤية الأحداث من منظور المستقبل.
ويعرف المسلمون أنهم  شهداء على أقدارهم ومقادير الناس من حولهم , فيلاحظون كل شيءٍ بصبرٍ وثقةٍ وإذعانٍ , غير قادرين على إيقاف تيار الأحداث أو تحويل مجراها لأنها تسير بعلم الله , وكم من آية ترسخ هذا المعنى في أذهانهم: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) ) سورة البقرة: 216.
وبمعنى آخر, فكل ما يسوء المؤمنين حدوثه سوف يتحول إلى صالحهم إن بقوا متمسكين  بإيمانهم بربهم صابرين على قضائه, فهذه الاختبارات فترةٌ تدريبيةٌ تعمق إيمانهم وتأصل سلوكياتهم  الأخلاقية فيصبحون من الجانب روحيا أكثر نضجاً وفطنةً , وتُرفعُ درجاتهم عند ربهم في الجنة.
والذين يدركون هذه المكانة الروحية السامقة هم جماعة مؤمنة امتثلت لأمر الله سبحانه من أعماق قلوبها. أما الذين لا يسلمون قيادهم للقدر ويرفضون الدين أصلاً فسينهارون من اليأس والخوف والاضطراب, وقد سدت أمامهم منافذ الأمل نحو النجاة. وسيبقون في شقاءٍ وتعاسةٍ روحيةٍ دائمة ٍ طالما انطفأ لديهم بصيص الأمل في نعيم الآخرة: ( فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) ) سورة الأنعام: 125.
إن حالة الخواء الروحي هذه تمخضت عن رفض هؤلاء القوم لقدر الله فيهم, حيث جنوا على أنفسهم بظلمهم هذا. فالله عز وجل- بكمال قدرته وسعة علمه - يتحكم في مصائر الخلق, ويهيمن على كل شيء في ملكه, وهذه بحد ذاتها نعمةٌ لا حد لها على المؤمنين. أما أولئك الذين خفتت أنوار إيمانهم أو قُل انطفأت, فهم لا يعرفون لهذه النعمة قدرا ولا يستطيعون الإذعان لميرهم المقدر عليهم فينتهي الحال بهم إلى الاستسلام لليأس والقنوط حتى يلقوا ربهم. فما هذه الحالة سوى عقوبة  روحية جلبوها لأنفسهم عمدا وقصدا لقلة ثقتهم بربهم عزّ وجل.

( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) ) سورة يونس: 44.


المسلم  أوقات الشدائد
تتكشف سمة الإيمان للإنسان المسلم وسلوكه الأخلاقي بجلاءٍ عند وقوع الشدائد. ففي هذه الأوقات العصيبة نرى الأخلاق السامية للمؤمنين, وشجاعتهم, وثقتهم بالله ووعيهم, وصبرهم ورباطة جأشهم, والاستعداد للمسامحة وتضحيتهم, ورحمتهم وإنسانيتهم وتقديرهم, وضميرهم الحيّ وسكينتهم.
ويشير تعبير "المسلم أوقات الشدائد" إلى الفرد الذي يتجشم عناء كل عنت ومشقةٍ وحرمانٍ وهو يبدي تلك الشمائل الرفيعة السامية. فمثل هؤلاء القوم لا يساومون على أخلاقهم, بل يتصدون لكل مكروه بتبصرٍ ووعي وثقة بالله تعالى, ويراقبون كل ما يحدث وما يمكن أن يحمله من إيجابية, داعين الآخرين إلى التزام بهذه الأخلاق الرفيعة نفسها. وكما يقول القرآن الكريم  : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) ) سورة الأحزاب: 10.
وعندما نتكلم عن أوقات الشدة, مثل الكوارث الطبيعية, وفقدان العمل أو الإفلاس وما شابهها من أحداث, يتبادر إلى أذهاننا نماذج من أناسٍ لا يعرفون لله سبحانه وتعالى قدراً. أما أولئك الذين يتحلون بالإيمان, فاللحظات الصعبة تعني مواقف جدّية قد يُحرمُ معها المُسلمونَ أبسط متطلباتهم الضرورية, حيث تصبح المنغصات أشد خطورة من تلك التي اعتادوها في حياتهم اليومية. ويصف لنا القرآن الكريم الوقت الذي تبلغ فيه القلوب الحناجر بأنها فترة يقع فيها كل ما يمكن تخيله من شدّةٍ ومرضٍ ومصيبةٍ تحدث للإنسان آخذٌ بعضها بزمام بعض, كمن يُلقى بهم خارج منازلهم, أو وقوعهم في شراكٍ نصبتْ لهم أو لأهلهم فيصبحون في مشقة وحزن شديدين.


وقد أورد القرآن الكريم نماذج لمثل هذه المشقات التي لاقاها الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون المخلصون. وقد تحمّل المؤمنون أصنافاً مختلفةً من الابتلاءات الشديدة لأن الله سبحانه خاطبهم بقوله : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) ) سورة البقرة: 214.
 يخبرنا الله عز وجل في هذه الآية أن المؤمنين سيتعرضون لشدائد كثيرة, فالذين صبروا واحتسبوا سيُرضيهم الله تعالى ويجزيهم خير الجزاء. وأوقات الشدائد تميز بين المؤمنين الصادقين والمؤمنين ضعيفي العزائم الذين همهم العيش في الرخاء والبحبوحةُ. أما مسلمو الصنف الأول فإنهم يستجيبون عند وقوع الشدائد والكربات بقولهم:

( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) ) سورة البقرة: 156.


صوت الضمير وصوت النفس الأمارة أوقات الشدائد
يستمع الناس عندما يواجهون أية شدّةٍ أو منغّصٍ لنداءين منبعثين من عالمهم الباطن, أحدهما  صوت ضميرهم الحيّ يحثهم على التزام السلوك الذي يرضي الله عز وجل مضحين بالنفس ثابتين على الشجاعة والاستقامة. فالذين أصاخوا لهذا النداء سيختارون الصبر لوجه الله والثقة به سبحانه. وينبعث النداء الآخر من النفس الأمارة التي وصِفتْ بحق "الأمّارة بالسوء"، وهو نداءٌ يحث على العصيان والفسوق والأنانية والجبن, جالباً لأولئك الذين استجابوا له الخسران المبين ليصبحوا للشيطان قرناء. ولتوضيح مدى الخسران الذي يتكبدونه من جراء صفقةٍ عقدوها مع الشيطان, كان من الضروري أن نعلمَ كيف مارس الشيطان   ُ تأثيره عليهم. فقد قدّم القرآن الكريم معلوماتٍ مفصّلةٍ في هذا الموضوع وحذر الناس من مغبة الوقوع في شراكه.
فعندما خلقَ الله آدمَ عليه السلام  أمر الملائكة والشيطانَ أن يسجدوا له, فسجد الملائكة طائعين, وأبى إبليس بكبرياءٍ وتغطرسٍ أن يفعل كما فعل آدم عليه السلام, فطُردَ من الجنة لعصيانهِ. ثمّ إنه طلب من الله أن يُمهله إلى يوم القيامة ليحاول إغواء الناس. فأجابه الله سبحانه إلى طلبه مُعلِماً إياه أنه لن يكون لهُ سلطانٌ على عباده المؤمنين. عندها أقسم الشيطان أن يُغوي الناس بما يقدّمهُ لهم من وعودٍ كاذبة وخداع ٍو ما يعده لهم من شراكٍ يقعون فيه ليُضلهم عن الصراط المستقيم. ويذكر لنا القرآن الكريم هذا القَسَم: ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) ) سورة الأعراف: 16- 18.

( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) ) سورة الإسراء: 62-64.

مثلما ذكرت الآية، يحاول الشيطان بمختلف السُبلِ أن يبعد الناسَ عن الصراط المستقيم, إياهم من تقديم واجب الشكر لخالقهم عز وجل, أو أن يعيشوا حياةً خيّرة, ولهذا  فإنهُ يسعى لجرّ الأكثريةَ من الناس ليكونوا في صفّهِ مستغلاً نفوسهم الأمارة. لذلك  نرى الناس عندما يقعون في الشدائد, يوسوس لهم الشيطان أنانيةً ألا يفكروا إلا في أنفسهم لتحقيق مصالحهم الشخصية مصوراً لهم التضحية والرّحمة على أنها أمور سلبيةٌ فيها الخسارة لهم: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) ) سورة البقرة: 168-169.
فينبغي على المسلمين, لهذه الأسباب مجتمعةً, عند مواجهة الشدائد  والمنغصات والكوارث أن يتصرفوا وفقاً لنداء فطرتهم السويّة كي لا يكونوا في صف الشيطان منفذين ما يريده من أنانية  وانتهازية وإصرار على الشهوات وكثير من الصفات السلبية الأخرى, وبالتالي ينحرفون عن أخلاقيات القرآن العظيم.
أما المسلمون الصادقون فيستمعون لنداء فطرتهم ويتخذون الصلاح لهم سبيلا. وقد صرّح القرآن الكريم بضرورة إظهار الأخلاق الصالحة: ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (21) ) سورة محمد: 21.
يعلم كثير من الناس أن الإيمان الذي يظهر أثناء الملمّات يدلّلُ على سمو الأخلاق, فيقسموا بدورهم أن يبقوا مؤمنين أقوياء في مثل هذه الأوقات العصيبة. ولكن عند الامتحان قد لا ينسجم سلوكهم مع وعودهم التي قطعوها على أنفسهم، وقد يتصرفون بسلبيةٍ عند مواجهة أدنى المنغصات, وفجأة يستشيطون غضباً إزاء أي موقف ويكيلون الاتهاماتِ الساخطة بدلاً من مشاعر الحب والتسامح, ويتحولون في لحظةِ لمواقف الريبة والتمرد والفظاظة. وهنا يتمايز المؤمن القوي عن  الضعيف, ويطفو الغثاءُ على السطح. فأما هؤلاء الذين ضَعُفَ إيمانهم فيحرق القلقُ قلوبهم, ويصبحون أقربَ إلى صف الكفار وأعداء الإسلام وممارساتهم منهم إلى صف أهل الإيمان الصادق. بينما تزيد مثل هذه الظروف المؤمنين الصادقين رسوخا في الإيمان وثباتا على الحق.
فكل الشدائد والمصاعب التي نواجهها في حياتنا اليومية ما هي إلا اختبارٌ ووسيلةٌ للوصول إلى السعادة السرمدية التي لا يمكن بحالٍ من الأحوال مقارنتها بما في الدنيا من متاع زائل. هذه السعادة السرمدية والنعيم المقيم الذي يسعى المؤمنون إلى الحصول عليه ونيله في الآخرة. ومن العجب أن هذه الشدائد تزيد المؤمنين المخلصين الصادقين طمأنينة وسكينة وثباتا، وتجلب لهم مزيداً من الحب والاحترام والتقدير من الناس المحيطين بهم. فهي تعد، بالنسبة إليهم، نعمةً إضافية تعمق إيمانهم وترسّخ يقينهم بربهم عز وجلّ. وهي نعمة كبيرة تزخر بفوائد جمة تجعل المؤمنين الآخرين يتخذون تلك الثلّة المؤمنة مثلاً يحتذى به. ولهذا أثر عام على الناس المحيطين بهم بفضل الله تعالى, كما ينالون أيضا تقدير غير المسلمين  واحترامهم.
ومن يعتقد أن هناك حدثا ما خارج إرادة القدر الإلهي يكون بالضرورة تحت تأثير سلطان الشيطان القوي المثير الأول لهذه الشكوك, فالشيطان يفرح أيما فرحٍ عند رؤية من يقعون من الناس في شر أحابيله. ويقع إيمان بعض الناس أحياناً تحت تأثير وساوس الشيطان فيعتبرون أن "حدثا ما" ليس له من أهمية واضحة يمكن أن يكون خارج دائرة القدر أو هو بعيد عن تحكم الله تعالى وعلمه وقصده. فينبغي على المؤمنين أن يتنبهوا لمثل هذه الأفكار ويعرفوا كيف يتعاملون معها حال ورودها على خواطرهم.
وهناك شيء آخر يتعين إدراكه، وهو أن فوات بعض الأحداث أو المواعيد، مهما ضعُفت قيمتها وقلّتْ أهميتها له يمكن أن يكون له فوائد جمة. مثال ذلك أن يفوتك برنامجٌ تلفزيونيٌّ محدّدٌ, أو تنسى طلب وجبة طعامٍ، فقد يوفر لك عدم مشاهدة التلفاز عمل برٍّ آخر تؤدّيه أو إبداع أفكارٍ إيجابية, أو قد تصل إلى فكرةٍ تزيد من قدرتك على طاعة الله سبحانه والتبتل إليه, أو تسخير هذه الفترة الزمنية البسيطة لذكر الله عز وجل، فيكرمك الله بأجر كبير ما كنت لتناله لو أنك قبعت أمام شاشة التلفاز. وقد يكون نسيانك طلب وجبة الطّعام سببا في المحافظة على صحتك من أحد الأمراض. وقد يجد المبتلون بضغط الدم العالي أن معدّل السكر قد عاد إلى مستواه الطبيعي عند نسيانهم أكل الشرائح التي تعودوا على أكلها. وهكذا, عندما يُسلمُ المؤمنون أنفسهم ليد العناية الإلهية سيعلو شأنهم في عين الله سبحانه وينالون رضوانه ويصلون إلى حقيقة الحبّ و الرضا .
وهناك أمثلة لا تحصى مأخوذةٌ من حياة الناس اليومية, وعلينا أن ندرك هذه المسألة ولا ندعها تتسرب خارج عقولنا دون فهمٍ ورويّة. فكل ما يواجه الناس من قضايا , كبرت أهميتها أو صغُرتْ هي واقعة لا محالة تحت قدر الله سبحانه وعلمه. ولكن الشيطان يوسوس لنا بالقول إنّ مثل هذه الأحداث أمور أساسية وضرورية لمسيرة الحياة اليومية ولا علاقة لها بقضاءٍ ولا قَدَرٍ. لهذا ينبغي أن يكون المؤمنون على أكمل  يقظةٍ و انتباه لرد مثل هذه الوساوس الشيطانية المدمّرة . ولكي نستطيع أن نفهم هذا الأمر لابد أن  نبقيهِ حيّاً في أذهاننا, عندها نرى الحكمة والصلاح في كل ما يجري من أحداثٍ, لأن كل ما يحدث إنما يقع وفق خطةٍ إلهيةٍ مرسومةٍ، وهي نعمةٌ عظيمةٌ لأهل الإيمان في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة إن شاء الله تعالى. هذه حقيقةٌ جليلة تمنح للمؤمنين الحكمة والعزيمة والراحة والقناعة.



التمييز  بين الخيـر والشـرّ
خلق الله سبحانه الخير والشرّ, والجمال والقبح على حدٍ  سواء, وجعلهم اختبارات على الطريق إلى الجنة أو إلى النار, حيث يتمايز الخير بوضوحٍٍٍ عن الشر طيلة زمن الاختبار؛ فهناك المؤمنون الصابرون, وهناك أيضاً الضعاف الذين لا يتحملون مواجهة الشدائد, وهناك فريق أخذ على عاتقه مواجهة تيارات الإلحاد وإنكار الدين، وهناك فريق آخر يكتفي بموقف المتفرج على الأحداث لا يقدم ولا يؤخّر, وثمة أناس كثيرون ضعُفت عزائمهم أمام نفوسهم الأمّارة بالسوء فلم يصغوا لنداء فطرتهم السليمة.
ولعل هناك سببًا جوهريّا لهذا الارتباط القوي بين مفهومي الخير والشر, حيث لا يمكن أن تُدركَ قيمةُ الخير إلا من خلال هذا التباين بين المفهومين.
فلا يمكن للناس مثلاً فهم قيمة الخير إذا لم يكن للشرّ والحرمان والبلايا من وجود. فضع مثلاً ألماسةً بين كومة أحجارٍٍ عاديةٍ, فستراها ازدادت حُسناً وبريقاً.
ويكمن سرٌ آخرٌ وراء ابتلاءات الحياة الدنيا الزائلة, حيث يُمتحن الناسُ بالشر والخير ويصبح الفارق بين الخير والشر جلياً نتيجة هذا الامتحان، فالخير يوجد في جوانب كثيرة من الحياة، وبجانبه الشر الذي لا ينفك يصارعه. فحين ينتزع مَلَكُ الموت أرواح الأشرار انتزاعاً رهيباً, يُدعى أهل الصلاح لدخول الجنة حيث النعيم والجمال السرمديين. ويبين القرآن لنا أن هذه الاختبارات هي السبيل التي يتمايز فيها المؤمنون عن أولئك الذين امتلأت قلوبهم إنكارا وجحودا: ( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) ) سورة آل عمران: 166-167

 

ذكرت هذه الآيات, أن سلوك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة الشدائد هو الفيصل الذي يميز المؤمنين الصادقين عن غيرهم من المنافقين.
وقد ذكر بديع الزمان رحمه الله هذه الفكرة بعمق موضحاً كيف أن الشدائد والملمّات تميّز بين الخير والشر, وقدّم لنا حكمة وإرشاداً بالغين حول هذه المسألة عندما سُئلَ عن الحكمة من خلق الشيطان ووجود الشرّ , فأجاب رحمه الله: إن هناك أسباباً جوهرية تكمن وراء كل مشقةٍ وحرمانٍ ومكروه، وأهم  الأسباب هو أن نفرق بين الموقف الهابط الوضيع وذاك السامي الرفيع.
      وقدّم لنا مثالاً ليرينا أن الكرب والشدّة  يفجّران أعظم ما في الإنسان من طاقات بناءةٍ . فابتلاءات الحياة الدنيا تُلقي الضوء عادة على أسوإ ما في الإنسان من صفات, إذ تمنحهُ الفرصة المناسبة لإصلاحها. فوجود مرضٍ عصيبٍ في إنسانٍ ما قد يدلنا على وجود اختلالٍ في شخصيته أو خواءٍ في روحه. فهذه امرأةٌ  تكشفت لها بعض عيوبها, فهي تبادر لتوها إلى إصلاحها في حياتها قبل فوات الأوان, وتتخلص بعد هذه السقطة من كل شائبة وتحسنُ أخلاقها. وهذا رجلٌ ذو سمعة حميدةٍ شريفةٍ  أفلس لسببٍ ما ثم لجأ لوسائلٍ غير شرعيةٍ لتحصيل المال ثانيةً. أرأيت كيف أن البلاء قد يُظهر صفات سيئة عند إنسان ما, ولو أن هذا الإنسان لم يرتكب إثما لما وضع شرفه موضع ريبةٍ رغم حاجته للنقود.
يوضح لنا بديع الزمان رحمه الله تعالى في هذه الرسائل مواقف لا بدّ أن تتحول لاحقاً إلى  خيرٍ محضٍ , فكتب قائلاً :
"فوجود الشر والأذى, والبلاء والمكروه والمعاناة في الكون ليس بالأمر السّيئ أو المستقبح بالضرورة , لأن هذه المعاني إنما خُلقت لغرضٍ مهمٍ , فالتقدم والتراجع شيئان لا بد منهما في حياة البشر, فهناك فرقٌ كبير مثلاً بين النمرود والفراعنة من جهةٍ , والأنبياء عليهم السلام والأولياء من جهة أخرى . ولكي نميز الأرواح الخبيثة عن تلك الأرواح الطاهرة السامية , كان خلق إبليس فتحاً لميدان الصراع والمنافسة والاختبار, وبُعثتْ الرُسلُ الكِرام لتميط اللثام عن عظمة سرّ التكاليف الإلهية. فلولا وجود الصراع والمنافسة لبقيت الصفات الخبيثة وتلك الحميدة كامنة بلا تمايز في أصل الوجود الإنساني, ولبقيت تلك الروح السامية الرفيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه  كتلك الروح الوضيعة لأبي جهل وعلى نفس المستوى دون تمايز, مما يثبت لنا أن خلق الشر والقبح ليس بالضرورة أمرًا رديئاً أو سيئا طالما أنهما يؤديان إلى نتائج حميدة" 6.
وهناك موضوع آخر تظهر من خلاله أهمية ابتلاءات الحياة الدنيا, فلو لم هناك شر أو بلاء في هذه الدنيا, لبقيت سمات الخير في شخصية الإنسان المؤمن كامنة دون أن تظهرَ على جوارحهِ و لأصبحنا غير قادرين على رؤية صفات الصلاح والبر لدى عباد الله المخلصين , ولن يكون بإمكان الإنسان المؤمن الترقي في درجات السمو الروحي. لذا , فكل حادثةٍ تبدو سلبيةً في ظاهرها إنما تفتح آفاقاً لا حدود  لها من الترقي لتصل بالإنسان المسلم إلى درجة الكمال الخلقي وتعمق بعده الروحي وترفع درجته ومكانته في الجنة إن شاء الله تعالى . كتب بديع الزمان رحمه الله تعالى موضحاً :
"يشكل الدين امتحاناً , أو اختباراً ارتآهُ الله سبحانه لكي تتمايز الأرواح السامية الرفيعة عن تلك الأرواح الدنيئة الوضيعة في ميدان سباق الحياة . وإليك الآن هذا التمثيل الرائع, تماماً كما نُدخلُ  المواد الصلبة في النار كي نفصل الماسَ عن الفحم , والذهب عن الخبث , كذلك الدين يشكل مجموعة تكاليف فرضها الله على الإنسان ليدخل في ميدان منافسة فسيحة تشكل الفرائض أهم عناصرها. فالدرر القيمة في منجم قدرات الإنسان تنفصل عن تلك المواد الخبيثة , وقد تنزل القرآنُ الكريمُ لكي يرقى بالإنسان إلى حدود الكمال الإنساني وهو يقدّمُ الاختبار تلو الاختبار في ميدان سباقٍ شاسع" 7.  
فينبغي أن تتمايز الصفات الحميدة الراقية , وفقاً لهذه المقارنة , عن تلك الخبيثة الوضيعة, ولا يتم  ذلك التمايز إلا باستخدام النار والمقصود بها الفترة الزمنية المشحونة بالابتلاءات المريرة, كالشدائد والنكبات والمنغصات المختلفة وذلك لتخليص النفس البشرية من الصفات الخبيثة الكامنة في فيها, لتشرقَ بعدها شمائل الخير والصلاح على ضوء الإيمان واليقين.
وقدّم لنا بديع الزمان رحمه الله تعالى مثالاً آخر حول عملية فرز الذهب عن النحاس والمادة الخام الأخرى, وضرورة ضربهما "بحجر المحك" لينفصلا بهذه العملية عن بعضهما البعض مادتين قيّمتين, ثم يُزالُ خبث النحاس الذي لا خير فيه, ثم تُضرب المادة الخام بحجر المحك بقوّةٍ وتوضعُ في منخلٍ ناعمٍ ليتضح لنا وجود معدن الفضة فيُنقى من معدن النحاس الذي يقللُ من قيمتهِ . والسؤال : ماذا يقصد أستاذنا من "الضرب بحجر المحك"؟ هل هي معاناة المشقات والنكبات ومختلف أصناف المتاعب التي تكشف الجمال الباطني الكامن في داخل الإنسان ؟ إن قسوة المشقات والمحن تُظهرُ قوة إيمان الإنسان وتفوق شخصيته, وتميّزها عن غيرها. ومن بين نتائج هذا الاختبار أيضاً نضج شخصية المؤمن وتقوية الإيمان وتثبيت الجوانب الروحية فيها. إذاً , بهذه العملية يتم تطهير شخصية الإنسان المؤمن المتميزة من كل الصفات السلبية حتى تبدو وكأنها معدن ثمين. يقول بديع الزمان رحمه الله تعالى :
"وفجأة اُخطر للقلب صباح هذا اليوم ما يلي: إنّ دخولكم هذا الامتحان القاسي، وتمييزكم الدقيق في المحك مرات عدة ليخلّص الذهب من النحاس، واختباركم من كل جانب بتجارب ظالمة لمعرفة مدى بقاء حظوظ نفوسكم الأمارة ووساوسها، ومن ثم تمحيصكم تمحيصا دقيقا، كان ضرورياً جدًّا لخدمتكم التي هي خالصة لوجه الحق والحقيقة، لذا سمح القدر الإلهي والعناية الربانية به، لأن الإعلان عن هذه الخدمة السامية، في ميدان امتحان كهذا، تجاه معارضين عنيدين ظلمة يتشبثون بأتفه حجة .. جعل الناس يفهمون أن هذه الخدمة القرآنية نابعة من الحق والحقيقة مباشرة، ولا تداخلها حيلة ولا خداع ولا أنانية ولا غرور، ولا غرض شخصي ولا منافع دنيوية ، إذ ما كان عوام المؤمنين يثقون بها لولا هذا الامتحان، حيث كان لسان حالهم يقول: ربما يقولون ليغرروا بنا ويخدعوننا. ويرتاب خواص المؤمنين ويقولون: ربما يعملون هكذا رغبة في الوصول إلى مقامات معينة، وكسباً لثقة الناس بهم ونيلاً للإعجاب، كما يفعله بعض أهل المقامات الرفيعة، وعندئذ لا يثقون بالخدمة. ولكن بعد الابتلاء، اضطر حتى أعتى عنيد مرتاب إلى التسليم بالأمر. لذا إن كانت مشقتكم واحدة فإن ربحكم ألف إن شاء الله" 8.
لفت بديع الزمان رحمه الله تعالى انتباهنا, من خلال هذه الأمثلة, إلى أسباب أخرى لهذه المنغصات والشدائد حيث يستلهمُ الناسُ من أولئك المؤمنين سلوكهم الأخلاقي الرفيع وسبيل تخلصهم من صفاتهم السلبية أثناء مواجهتهم لتلك الابتلاءات.
فإخلاص المؤمنين وما يعيشون به من سلوك أخلاقي رفيع وتحليهم بالاستقامة سيبدو جليا أثناء معاناة الشدائد المريرة, فيلحظ عامة الناس هؤلاء المؤمنين وليس لهم من غرض مادي ولا مكافأة ينتظرونها من أحد عما يقدمونه من طاعات امتثالا لأمر ربهم عز وجل ، وسيعترف عندها حتى الذين يثيرون الريبة والشكوك حول المسلمين أن كل جهد قدمه ذلك النفر المؤمن لا باعث له سوى رضوان الله سبحانه، وسيشهد الجميع بطهارة أهدافهم وسموها، وسيقدّرون ما بذلوه من تضحية في سبيل الحق، وهذا ما يثبّتهم ويزيدهم قوة وعزما.



الثبات على الأخلاق السامية عند المشقات والشدائد أيضا
من الطبيعي أن تمر على الناس في اليوم الواحد أمورٌ عديدةٌ متباينة ، كالشعور بالإرهاق  والجوع والضعف، ولكن قد يكون المسلمون محل اصطفاء من الله ليمروا بمحن تكون معاناتهم خلالها أشد وطأة عما اعتادوه من ذي قبل, فنرى فرقا شاسعا بين ما يبديه المؤمنون وغير المؤمنين من سلوكيات أخلاقية حيال المواقف ذاتها. وقد يؤدي ما يلحق بالكافرين من مشقة إلى العصيان والخوف والعداوة, فاقدين الأمل والاستقامة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلا، فكل ما يفعلونه نابعٌ من حرصهم على شؤون الدنيا ومتاعها: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)  ) سورة الجاثية: 24.
فوفق فهمهم للحياة، سوف ينتهي كل شيء عندما تقف ساعة الحياة عن الدوران لذا فهم حريصون على تحقيق الراحة ونيل أقصى قدر من اللذة، وهم حريصون كذلك على الحصول على مقابل لأعمالهم وكل ما يفعلونه من خير في هذه الحياة الدنيا دون انتظار أيّ جزاء في الآخرة. ومثل هذا التفكير يجعلهم غير قادرين على تحمل الشدائد والمشقات. فما هم بالصابرين ولا الواثقين، كما أنهم غير قادرين على إبداء التسامح ولا معاملة الآخرين معاملة إنسانية تزخر بمشاعر الشفقة والرحمة. ولاعتقادهم بعدم وجود مكافأة أو فائدة لبذل مثل هذه الفضائل فإنهم يقعون في حبائل اليأس معتقدين أن هذه الشدائد لا تجلب لهم سوى الخسران .
إن هذا الضرب من التفكير خطأ كبير، لأن حياة الخلود الحقيقية للإنسان تبدأ بعد الموت, ويوم القيامة يُحاسبُ  كل فرد على ما قدمت يداه, فيتسلّمُ  جزاءه العادل. فالذين تمسكوا بالأخلاق السامية الرفيعة لن يمسهم سوء ولا نصب بل ستكون مكاسبهم عظيمة جليلة، وسيُجزونَ خيراً على كل كلمة نطقوا بها، وعلى كل عمل خير أدّوه وعلى كل تضحية بذلوها، وعلى كلّ إخلاص أبدوه.
أما أولئك الذين خرجوا من ربقة الدّين فهم لا يدركون لهذه الحقيقة أهمية، فتأخذهم رهبة مفزعة أمام المواقف الحرجة لأنهم ينكرون أصلا فكرة الاختبار حيال كل ما يقومون به من أعمال، وهذه مسألة ينبغي أن نُوجه لها عناية كبيرة: ( وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)) سورة النساء: 104.
       يتعرض المؤمنون وغير المؤمنين, كما أوضحت الآية الكريمة, للمشقات والمصاعب نفسها , ولكن الكافرين، لإصرارهم على كفرهم, لا يقبلون أنّ ما يجري من أحداثٍ هو أمرٌ مقدرٌ من الله ابتداءً, وبذلك فهم لا يرجون ما يرجوه المؤمنون من ربهم عز وجل. فالفارق الأساسي بين الفريقين هو ذهولُ الكافرين وغفلتهم عن الهدف الجوهري لحياتهم الدنيا. وهو ما يميز المؤمنين في الدار الآخرة عن أولئك الكفرة.
      ومن جانب آخر, يمثلُ الجوعُ مشقة ومشكلة كبيرة لدى الكافرين, بينما هو اختبارٌ يُبرزُ عظمةَ أخلاق المؤمنين, وهم يعتبرونه فرصةً ما ينبغي أن تفوتهم دون ما فائدةٍ يحققونها, ويمثل الإذعان لإرادة الله سبحانه والثقة به والصبر على قضائه. وفي مثل هذه الأوقات العصيبة, أهمية خاصةً بالنسبة لهم, غير فاقدين الأمل بربهم عز وجل, ملتمسين الجانب الإيجابي في كل ما يجري حولهم, وعلى هذا النحو أيضا يتجاوز المؤمنون هذا الامتحان بسلام.
       إن أول ما يراعي الكفّارُ عادةً مصالحهم وراحتهم الشخصية, في حين يراعي المؤمنون ذوو الأخلاق الحميدة الحقّ ويجعلون إخوانهم المؤمنين أولى بالإحسان, فيفسحون لهم أوسع المجالس ويكرمونهم بأجود الطعام ويمدونهم بأفضل الملابس طواعيةً. فعند اشتداد البردِ مثلاً يقدّم المؤمنون لإخوتهم العون من أغطية ومآكل ومشارب, حتى وإن شعروا هم بالبرد, تغمرهم السعادة العارمة أنْ وفروا لإخوانهم أسباب الصحة والسلامة والراحة. ذلك أن السعادة القلبية التي ينالونها بفضل التضحية التي يبذلونها لا تُقارنُ بحالٍ إذا ما قيستْ بمتعة شربةٍ ساخنةٍ يحتسونها.
أما أن تُعاملَ الآخرين بإحسانٍ فيقابلونك هم بالإساءة والقطيعة, وتوجيه الكلمات النابية القاسية, فهذا سلوك لا يصدر إلا من قبل المؤمنين الواثقين بربهم عزّ وجل. وإليك صورة أخرى لمثال العمل الصالح: شبعان يبذل الطعام لجائعٍ, وثانٍ ينعم بالدفء فيعطي الكساء لمن يشكو البرد القارس, فكلا الرجلين يكبران في عين الله عزّ وجل. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية ينمّ عن قوّة إيمانٍ وإخلاصٍ لدى الفرد المؤمن وشدة ورع عنده وسمو أخلاق عند الشدائد.
وقد يستمع أهل الفضيلة - المستجيبين لنداء فطرتهم السليمة - لصوت النفس الأمارة تدفعهم نحو ارتكاب الآثام مصوّرة لهم صعوبة التمسك بالفضيلة والثبات عليها, متبعة شتى السبلِ لإبعادهم عن التزام الفضيلة موهمة إياهم أن البرد سيصيبهم إذا تصدقوا بما عندهم من كساء, ويجوعون إذا بذلوا الطعام للجائعين, وهذه إحدى أساليب الشيطان في استخدامه لأسلوب التخويف من الفقر لمنع المؤمنين من مد يد العون لإخوانهم الفقراء: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) ) سورة البقرة: 267-268.
تبين لنا الآيات السابقة أنّ الله قد أوهن كيد الشيطان ووهب رضاهُ للعاملين وفق سلوكيات القرآن السامية الرفيعة, ومنحهم سعادة روحية لا تقارن مع أيّ من الملذات الدنيوية مهما بلغت قيمتها. فالتضحية بالنفس, والصبر والإخلاص, وإبداء الكرم وبذل المشاعر الإنسانية والوفاء تعود على الإنسان بآفاقٍ من السعادة لا حدود لامتدادها. وقد امتدح الله تعالى في سورة الحشر أخلاق المؤمنين السامية حينما فتحوا بيوتهم لإخوانهم المهاجرين, مقدّمين لهم كل ما يحتاجونه, وقد يكونون هم في أشد الحاجة:

 ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) ) سورة الحشر: 9.

ويصف الله تعالى لنا عطاءه العظيم للعاملين في سبيله عند تجاوزهم اختبار العطش والجوع والإنهاك في سورة التوبة:

( مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)) سورة التوبة: 120.


مثلما بينت هذه الآية الكريمة فإن كل كربٍ يعانيه المسلم أثناء سيره إلى الله تعالى يُحتسبُ له عملٌ صالحٌ, وعلى فرضِ أن الناس جميعا قد فُطروا على طاعة الله سبحانه وتقديم الصالحات من أعمالهم, فسينالون أتمّ الجزاء لصبرهم واستقامتهم, ولن يخافوا ظلماً ولا هضما.
ويوقن المؤمنون كذلك أنّ الله وحده سيوفيهم أجورهم لمعاناتهم المرض ومختلف الشدائد وأن الدنيا وما عليها مصيره إلى زوال. وبذلك, فلا تنقصهم الفطنة والحزم والثبات على مبادئهم، وقد علموا من القرآن الكريم أن الله سيمد من عمل في سبيله بالمدد والقوة الرّوحية. فهم مدركون أن ابتلاءات الحياة الدنيا تولّدُ إحساساً عظيماً  بالطمأنينة عند مواجهة المشقات.
  ولن يكونوا أبداً فريسةً سهلةً للخوف والقلق والاكتئاب بحكم إدراكهم لمجريات الأحداث أنها    اختبارات على الطريق, وهيهات أن يفقدوا الأمل أو يساورهم الخوف.

القوّة التي تشدّ أزر المؤمنين 
إنّ الشخصية القوية المستبشرة التي تبدو عند المؤمنين الصادقين أوقات المشقات والشدائد لا يُدركها من لا يؤمنون بقوة الله وقدرته المطلقة. فالشك يساورهم، وهم مرتابون في المصدر الذي يستمد منه المؤمنون قوتهم, ويبقون في جهل إزاء القوة التي تمدّ المؤمنين بهذه الطاقة المؤيدة. فالناس في عاداتهم أقوياء بما يملكون من وسائل مادّية وعلاقاتٍ اجتماعية. فتراهم دائمي البحث عن نوع من قوة تدعمها مصادر مادّية مختلفةٍ يظنونها مصدر القوّة عند المؤمنين, وهم جاهلون بأن قوة إيمان المؤمنين تنبع أصلاً من إذعانهم لقدر الله سبحانه وثقتهم المطلقة به, إلى جانب إيمانهم الراسخ بالآخرة. وتحفلُ حياة الأنبياء والصالحين بأمثلة خالدةٍ لتفجّرِ هذه الطاقات من معين الإيمان بالله تعالى والثقة به.
وتمثّلُ  قصة سحرة فرعون أنموذجاً رائعاً في هذا السياق, حيث أظهر السحرة بعد إيمانهم بالله عز وجل قوّة إيمانية فذّة عندما هُددوا بالموت من قِبلِ فرعون. فقد حاول فرعون أن يُرهبهم بالتنكيل والموت ليبعدهم عن سبيل الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام, فكان جوابهم أنْ لا خشية إلا مِنَ الله تعالى وأن ما سيصيبهم هو من قدر الله تعالى فيهم. وبقيَ السحرة المؤمنون رغم شدة التهديدات  متمسكين بإيمانهم واثقين بربهم عز وجلّ, وما كان لهم أن يُظهروا ذلك كلهِ لولا صدق توجههم إليه سبحانه : ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) ) سورة طه: 71-73.
ومثال آخر عن فتية آمنوا بنبوة موسى عليه السلام, في حين نجحت تهديدات فرعون في صدّ  نفرٍ من شعبه عن الإيمان بالله فخسروا معه الدنيا والآخرة , وثبت أولئك الفتية المؤمنون لا يخشون في الله لومة لائم  ولم تُجدِ معهم تهديدات فرعون وظلمه لزحزحتهم عن إيمانهم الخالص بالله عزّ وجل:

 (  فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) ) سورة يونس: 83.

فالمؤمنون عامّة, كهؤلاء الفتية المخلصين الذين آمنوا بنبوة موسى عليه السلام , يُظهرون نفس الثقة والشجاعة عندما يناصبهم المجتمع العداء أو تجتمع عليهم المشقات والكروب  أو تصيبهم الحاجة الماسّة، و يقول القرآن الكريم في سورة الأحزاب:

 ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22)) سورة الأحزاب: 22.


طاعة أوامر الله تعالى في أوقات الشدائد أيضا

تمثل استجابة المسلمين لأوامر الله سبحانه وتوصياته واحدة من أنبل ما يميز المؤمنين من الفضائل. فهم لا ينتهكون شيئاً مما حرّمه الله تعالى عليهم مهما بلغت حاجتهم أو زادت وطأة كربتهم, ولن يعرّضوا أمانتهم وإخلاصهم للشك والريبة عند تعرّضهم لمرضٍ أو ضرورة, أو فشلٍ أو اضطهاد.
ويودّ الشيطان, كما نبهنا من قبل، أن يضلّ الناسَ عن سبيل ربهم القويم ليحملهم على سماع نداء نفوسهم الأمارة بالسوء, فيحثهم أن ينتهكوا ما حرّم الله تعالى ويحجب عنهم سُبل هداية ربهم عز وجلّ وتشاركه النفس الأمارة لتحقيق الهدف نفسه موسوسة ومزينة لهم ارتكاب أسفل الأعمال وأرذلها , محاولةً على سبيل المثال منع الناس من الاستيقاظ لأداء صلواتهم, مزينة لهم النوم والاسترخاء, وغير ذلك من السلوك الذي فيه معصية لله تعالى. ويحدّثهم الشيطان حديثا يزين لهم فيه حبّ الراحة ويحول بينهم وبين القيام لأداء الطاعة.

ولكن المؤمنين لا يصغون لهذا النداء السلبي, فينهضون كل صباحٍ بنشاطٍ وحماس لأداء صلواتهم, متيقنين أن هذه هي السبيل القويم نحو الإحسان والخلاص الحقيقي. ولنأخذ مثالا على ذلك أيضا موضوع الصيام, فنداء النفس والشيطان يريد أن يقنع الإنسان بصعوبة الصّيام رغم أنه فرض من عند الله تعالى، فيصور للإنسان حالة الجوع والعطش ومشقتهما. بيد أن المؤمنين يصبرون ويثبتون على الطاعة بعزيمة راسخة رغم ضغوط النفس الأمارة المستمرة, لأنهم يتوقون إلى نيل الثواب من عند خالقهم على الجوع والعطش والتعب الذي يتجشمونه قياما بالطّاعة وتلبية لنداء الإيمان ونفوسهم مفعمة بالراحة والسرور.
وبالصورة نفسها تزين النفس الأمارة المالَ غير المشروع ليبدو حلالاً, وذلك أن أكثر الناس يفعلون ذلك, ولكن المؤمنين المخلصين الصادقين لا يسمحون لأنفسهم أن يسقطوا هذه السقطة المُريعة رغم حاجتهم المُلحّة أحياناً للمال وإصرار النفس الأمارة على فعل ذلك. فلا يقربونَ مالاً حراماً, ولا يتناولون طعاماً مصدره من الحرام مهما بلغت بهم الحاجة. وهم لا يبررون لأنفسهم فعل شيء من ذلك بحجة الخصاصة، وإنما ينأون بأنفسهم عن كل ذلك لأنهم يدركون أهمية تجنب محارم الله عز وجل، وهذا الإدراك نابع من حسٍ إيماني داخلي عميق وخشية خالصة من الله عز وجلّ.
ويخاطب القرآن الكريم المسلمين التوّاقين للعمل بمقتضى ما يُرضي ربهم عزّ وجل, فيسابق بعضهم بعضاً مسرعين نحو عمل الخير مجتهدين للوصول إلى جنّة ربهم الموعودة, باذلين ما بوسعهم  صابرين على الشدائد . وقد يكون لهم إخوة مسلمون أصحابُ حاجةٍ, على سبيل المثالِ, فينهضون صبيحة يومٍ عزّ نومُهُ محاولين أن يُلبوا كل حاجاتهم وقد لا يعلم أصحاب الحاجة مَنْ مِنَ الناس أسدى إليهم صنائعَ المعروفِ تلك. وقد فعلَ أولئك ما فعلوا وهم لا يودّون إشهار ما عملوا كي لا يسببوا أي إحراج لإخوانهم, تملأ قلوبهم سعادة عميقة لتطبيقهم مُثُلَ القرآن، وقد وجدوا فيه الأسلوبَ الأمثل البعيد عن كل رياء:
    ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) ) سورة الحجرات: 7-8.
ولكن يحاولُ الشيطان, رغم كل شيء, بكافة السُبُلِ أن يُلبسَ غيرَ الشرعي منَ الأعمالِ لباس الشرعيةِ ويدللُ على صحة ما يذهب إليه أنّ غالبية الناس هم على نهج ما يوحي به , فيتداول كثيرٌ من الناس المال الحرام غير آبهين كونه حلالا أو حراما متجاوزين تعاليم القرآن ومبادئه، وهو كذلك يحاول إقناعنا أنّ ما تفعله الأغلبية هو عين الصواب. بيد أن القرآن الكريم ينبهنا إلى شيء مهمّ, إذ أنّ أولئك الذين يرتكبون الآثام دونما اعتبار لأي قيمة ليسوا حقيقة على صراط ربهم المستقيم ولو كانوا هم الأكثرية من الناس: ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) ) سورة الأنعام: 116.
ويُعلمنا الله عز وجل من جهة ثانية أن قليلاً من الناس يتمثّلون حقيقة الإيمان ولكن الأكثرية ليسوا على صراط ربهم القويم, ولهذا لا يقوى الشيطان على خداع المؤمنين, بل غالباً ما يكون تأثيره على ضِعافِ الإيمان ومن ملأت الريبة عقولهم رافضين فكرة الإيمان بالله تعالى.
تنبع صلابة موقف المؤمنين المخلصين من إيمانهم العميق بالله عز وجل وما يجلبه هذا اليقين من قوة ثباتٍ على الحق بالإضافة إلى سلوكهم الأخلاقي السامي، فالمؤمنون يعرفون أن العمل الصالح يقفُ سداً منيعاً أمام تلبيسات الشيطان ووساوس النفس الأمارة بالسّوء.

         فعندما يتحلى المؤمن بشيم الكرم والولاء والصبر والإخلاص وغيرها من القيم الحميدة الأخرى, تكون النفس الأمارة في أسوإ حالاتها, وتكون نتيجة هذه الأعمال الطيبة لذة روحية وراحة بدنية يجدها المؤمن في نفسه. ومن الأجدى أن نعيش حياتنا في هذه الدنيا وفي الآخرة في حالة من القناعة والطهر, من أن نقتنصَ كل شهوات الدنيا وما يُرضي النفس الأمّارة. فالذين أبَوا سماع نداء النفس الأمارة لإقامة علاقاتٍ غير مشروعة وفضّلوا انتظار جزاء ربهم العظيم في الآخرة سينعمون في هذه الدنيا بشرفٍ وعزّ كبيرين. أما أولئك المؤمنون الذين تعبوا من اجل إراحة الآخرين وجاعوا من أجل إطعام غيرهم واستهانوا بالمشقات والمتاعب في سبيل دينهم فإن قلوبهم تكون مفعمة بالطمأنينة طمعا في رضاء ربهم عنهم.
وقد امتدح الله تعالى في كتابه العزيز المؤمنين الذين يتحلون بهذه الشمائل الأخلاقية الرفيعة, ونالوا كذلك محبة الناس واحترامهم. وسينال- هؤلاء الذين يعملون لوجه الله تعالى  مواجهين الصعاب بسرورٍ ورضا, يعملون بثبات لا يكلّ لقضيتهم العادلة دون خوف أو وجل, متقبلين طواعية تقديم النفس والنفيس من أجل قضيتهم. ويذكر الله تعالى في كتابه الكريم مَنْ التزموا بطاعة فكان نصيبهم الفوز:

      ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) ) سورة الأنبياء: 101.

                           
أخوة المؤمنين الحقيقية أوقات الشدة
"عند الصّعاب يُفتقدُ الأصحاب"، هذا مثلٌ سائد يعبّر تعبيراً صادقاً عن الفكرة الشائعة بندرة وجود الصّديق المخلص عند الحاجة إليه. ومع ذلك, فإنّ قيمة الوفاء والإخلاص ذات أهمية بالغة في حياة الناس خاصةً عند مواجهة شدّة أو مرضٍ, إذ يكونون في أمس الحاجة لدعم معنوي من صديق مخلص. إنّ الصّداقة في المجتمعات الغربية اللاّدينية مبنية على الانتهازية, فالناس هناك قليلا ما يجدون الصّديق المخلص خاصة عند تعرضهم لأوضاع حرجة, فيتكشف لهم الوجه الحقيقي لمن كانوا يعتبرونه دائماً صديقاً وفياً. بل ربما يزيدهم ذلك الصديق المفترضُ شدّة وعنتاً أوقات ضيقهم. وهم يشكُون وتعلوا أصواتهم بطلب النجدة ولكن لا حياة لمن تنادي.
وخذ مثال الرجل الذي يقود سيارة فارهة, ويأكل في أفخم المطاعم وله عدد كبير من الأصدقاء, افترض معي أنه فقد عمله وبقي على مرتبه البسيط, كيف سيكون موقف من تربطه بهم علاقة الصداقة ؟ هل سيبدون له نفس مشاعر المودّة التي كانوا يبدونها له عندما كان ثرياً ؟ هل سيكنّونَ له نفس التقدير والاحترام الذي كانوا يظهرونه له عندما كان يرتدي أفخر الثياب ويقود أفخم السيارات؟ كيف سيعاملونه لو لبس رثّ الثياب ولم يعد ينفق من ماله عليهم أو يدعوهم لوجبات العشاء كما عوّدهم فيما مضى ؟ من الواضح أنه يخسر ولاءهم ولن يحوز انتباههم مرة أخرى. إنّ كل من ظنهم أصدقاءه سيولونه ظهورهم, وربما يتظاهرون بعدم رؤيته عند لقائه, هذا إن لم يهزؤوا منه. إن حقيقة الشخص باقية لم تتغيّر لكن الذي تبدّل هو مظهره الخارجي, ولأن المظاهر الخارجية هي موضع اهتمام أصدقائه السابقين فقد هجروه في لحظة تاركين إياه وحيداً.
وخذ مثالاً آخر, زوجان تعاهدا منذ بداية حياتهما الزوجية أن يقف كل منهما إلى جانب الآخر في أوقات الشدّة والرّخاء, ولكن ما أن تُصاب الزوجة بمكروه كالشلل النصفي مثلاً إثر حادثٍ - لم تعد تقوى معه على السير أو عمل أيّ شيء بمفردها - إلا ويتبدّل الموقف, لكن  ربما بقي الزوج معها لبرهة يسيرة, وحين يُدركُ الزوج أن حالتها هذه مزمنة ولا فائدة مرجوة منها, ينقلب كل شيء رأساً على عقب. يتبين لنا من هذا المثال مفهوم الكافرين للوفاء والإخلاص والصداقة, فعندما تتعطل المصلحة تنقطع أواصر المحبة. أما الذين لم يهجروا زوجاتهم في مثل هذه الظروف العصيبة فلاعتبار ما يمكن أن يُقالُ عنهم من قِبلِ أصدقائهم وليس لاعتبار المحبة للزوجة المقعدة أو الرأفة بها. ففي الظاهر هم مخلصون أوفياء, ولكن في الحقيقة لا يشعرون أبداً بصدق الرأفة والحنان.
ومعاملة الشباب لكبار السن من آبائهم واقعٌ آخر يكون أشد وضوحاً في المجتمعات الكافرة البعيدة كل البعد عن أخلاقيات القرآن الكريم ومثُلهِ. فقد لبّى هؤلاء الآباء لسنين عديدة متطلبات أبنائهم, وما إن يتقدم بهم السن وتضعف قواهم البدنية حتى يتنكرَ الأبناءُ لما يُفترضُ أن يبذلوه من وفاءٍ وعناية بآبائهم, فيشعر الأبناء أن آباءهم يشكلون قيوداً عليهم ويكون الحل أخيرًا بوضعهم في بيوت العجزة.
يبدي المسلمون الوفاء الصادق في معاملة أفراد عائلاتهم في جميع الظروف مهما تباينت أشكالها, فربما أطعموا آباءهم وهم أنفسهم لا يأكلون, ويتفانون في تلبية حاجاتهم. وقد وصف القرآن الكريم الطريقة المُثلى التي ينبغي على المسلمين اتباعها في معاملة آبائهم:

 ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) ) سورة الإسراء: 23.

بين المسلمين الأوفياء فقط تجد هذه الأخوة الحقيقية, والوفاء الصادق والإخلاص الحق. فهم مناصرون لإخوانهم متكافلون معهم وملتزمون أخلاقياً بمراعاة شؤونهم حتّى في ساعة العسرة, باذلين أقصى ما بوسعهم لتلبية حاجات إخوانهم  قبل حاجاتهم الشخصية شاعرين بسعادة عارمة لما يقدمونه من تضحية. فعندما يعاني إخوانهم مرضاً أو يواجهون أزمة مالية تراهم يسارعون بتقديم ما عندهم قبل أن يُطلبَ منهم ذلك, ولو حُرموا النوم أو الطعام فلن يدعوا إخوانهم في عسرة ومشقّة. ويخبرنا القرآن الكريم عن هؤلاء الأخوة الصادقين:
 ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)) سورة المائدة: 155

 ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) ) سورة الأنفال: 72.


إن مع العسر يسـرا
نحن نذكر المصاعب والمشقات التي يمتحن الله تعالى بها عباده المؤمنين الذين يُظهرون أرفع سلوك أخلاقي وسط الظروف الحالكة. وعرضنا كذلك مشاعر السعادة والحبّ والتقدير التي يتحلون بها انسجاما مع سمو أخلاقهم, مدركين أن الله تعالى يُنزّل مع كل اختبارٍ يمتحن به عباده رضاً وسكينة تُريح المؤمنين الصادقين وتطمئنهم. وقد ذكر هذا الوعد في القرآن الكريم:

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) ) سورة الشرح: 5- 6

(...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ...(185) ) سورة البقرة: 185

( وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) ) سورة الأعلى: 8


( ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)) سورة الطلاق: 4-5

( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) ) سورة الطلاق: 7

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ  وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)  سورة الليل: 5-11

 

فالله تعالى ينزّل سكينته, وفق هذا النسق القرآني, على المؤمنين العاملين أثناء معاناتهم الشداشد والصّعاب, مادّاً إياهم بالعون من خزائن رحمته سبحانه, تحملُ مدده إليهم ملائكة كرامٌ, زافين لهم أسعد البشائر الربانية:

( وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) )  سورة آل عمران: 123-127

والله تعالى يدافع عن الذين آمنوا, وتنتصر لهم الملائكة, بجنودٍ لم يروها ليبقوا ثابتين بين شعوري الأمن والرضا. ويصف القرآن الكريم في آية من سورة التوبة التأييد الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم في إحدى المواقف العصيبة فيقول:

( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)  ) سورة التوبة: 40

كما رأينا في الآية السابقة, كل فترة عصيبة كان يتبعها إحساس عميق بقرب الفرج وزوال الشدة. والمؤمنون يعملون يدا واحدةٍ, مدركين أن ما يمرُّ بهم من أحداثٍ ينطوي على اختبارٍ قد أعدّ لهم, مقدرين ضرورة تهيئة أنفسهم لحياة الآخرة الخالدة, وهو ما يمدهم بإحساسٍ لا حدّ له من الطمأنينة عند مواجهة الابتلاءات, متلقين من الله سبحانه أعظم البشائر وأسعدها. وقد شهدنا مصداق ذلك في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته المؤمنين حيث أعقب صبرهم واحتسابهم النصرُ المبين. وتقدّم سورة يوسف عليه السلام تمثيلاً عملياً لمثل هذه البشائر الربانية الصادقة؛
        فقد ألقاه إخوته في الجبّ طفلاً صغيراً, وباعه الذي انتشله من الجب عبداً لعزيز مصر, ثم اتّهمَ بالتحرش من قِبل امرأة العزيز ظلماً وجورا, فأودع السجن وقاسى ويلاته دون أن يساوم على أخلاقه ومُثله, وكان يهرع لباب الله عز وجل عند كل ملمّة تعتريه, فيشعر بإيجابية كل ما يمر به من أحداث, حتى أصبح مضرب مثلٍ يحتذي به المؤمنون لكثرة طاعته وثقته بالله تعالى وسط خضمّ من المصائب والبلايا. وجاء إطلاق سراحه من سجنه مكافأة إلهية، وشهادة على حُسن صنيعه وشدة قربه من ربه عز وجل, وظهر إحسان الله له حين أُسند إليه أخطر منصبين في الدولة, القوّة والثروة. وشاءت الإرادة الربانية أن تكون حياة يوسف عليه السلام محطّ العناية الإلهية ليكون مثلاً يحتذي به المؤمنون, ومرجعاً صادقاً لتحقيق وعد الله لعباده المخلصين, يتلمّسه المؤمنون الصابرون الواثقون بربهم عز وجل وقت الشدائد بقرب راحتهم وفرجهم :
(... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) ) سورة الطلاق: 2-3
ويمتحن الله عباده, كما أوضح المثال السابق, في أوقات مختلفة بالشدائد ليبقى المؤمنون في محراب عبوديتهم مذعنين لربهم يملأ قلوبهم الرضا فيرتفعون في مدارج الكمال, موقنين من نيل جزائهم أضعافاً مضاعفة عن كلّ ما قاسوه من معاناة وتحلّوا به من أخلاق رفيعة في جميع المواقف العصيبة, والتضحية بالنفس والصبر والإذعان لقضاء الله فيهم. وربّ دقائق من الشقاء تحملوا عناءها في الدنيا تعود عليهم بملايين السنين من نعيم الجنة. وهكذا يقضي المؤمنون الواثقون بوعد الله تعالى حياتهم بأشواق عارمة وآمال متوثبة لنعيم سرمدي لا ينقطع مدده. ويصف الله عز وجل حالة المؤمنين الصادقين بقوله:

( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) ) سورة الفرقان: 72-76

( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) )) سورة النور: 37-38



موقف غير المؤمنين إزاء الصعاب
لا تتغير أخلاق المسلم, كما أوضحنا من قبل, مهما تلونت أحوال عالمه الباطن. أما مرضى القلوب والذين لا إيمان لهم فهم غير قادرين على تحمّل المشقات ومكابدتها, فمحرك صبرهم متعطل, ومرجل إيمانهم لا حرارة فيه, وعليه تراهم أكثر عنتاً عند مواجهة الشدائد, وقد يستشيطون غضبا وحنقا لأتفه الأسباب وتثور عدوانيتهم، وربما لجأوا إلى العنف. وقد يتظاهرون في الظروف العادية بالمرح والطمأنينة, ولكن سرعان ما تتملكهم العدوانية والفظاظة عندما يعرض عليهم المؤمنون حقائق الإيمان وحقائق الأخلاق القرآنية, فتثور عداوتهم كاشفين اللثام عن دمامة وجوههم وسوء أخلاقهم.
وأكثر ما يكشف معدن شخصيتهم  فقدانهم فرص العمل أو تعرضهم لمرض أو حادثة أو مصيبة أو بلاء. فلو فقدوا السكن لفترة قصيرة مثلاً أو حرموا النوم أو قضّت المشكلات  مضاجعهم, فسرعان ما يصبحون فريسة للقنوط. ويصف الله تعالى لنا هذه الشخصية الجاحدة التي غالباً ما تظهر عند الشدائد  فيقول:

 ( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) )) سورة الفجر: 15-16

وهكذا, يبتلي الله تعالى الكافرين بالمنع والعطاء وفقا لإرادته سبحانه. فيبقى المؤمنون بكامل ثقتهم بربهم وامتنانهم له عز وجل. وينقلب الكفرة على أعقابهم جاحدين نعمة الله تعالى عليهم منكرين جميل صنعه, فيخسرون الدنيا والآخرة. وقد تأتي ردة فعلهم على شكل اكتئاب حادٍ يدفعهم للانتحار أو اللجوء إلى المسكرات أو المخدرات. فهم لا يفهمون هذه المصاعب فهما إيجابيا، ولا يقدرون الخير الذي يمكن أن تنطوي عليه. ويشدد الله تعالى عليهم وطأة البلاء جزاءً وفاقا:

( وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) ) سورة الزخرف: 48

وبمعنى آخر, يسلط المولى عز وجل عليهم أوقاتاً عصيبة عسى أن يعودوا لطريق الحق فيتوبون ويلزمون جادة الإيمان, ولكن غالباً ما تجعل هذه المنغصات قلوبهم أكثر قسوة فيزدادون بعداً عن خالقهم عز وجل وإنكاراً لجلال عظمته سبحانه : (  فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) ) سورة الأنعام: 43-44.

الحالة النفسية لأولئك الذين  أخلدوا إلى الأرض
إنّ فهم المسلمين لسرّ الاختبارات التي يمرون بها  يمُدّهم بالرضا والطمأنينة و يجعلهم ينعمون بثمرات صبرهم واحتسابهم. أما الذين أخلدوا إلى الأرض ظانين أنّ الحياة الدنيا دار مقام وبقاء فإنهم يَشقَونَ بما يعانون من بؤس وآلام وغم وأنانية ورغبات دنيوية. ويداخل هذا الألم جميع تفاصيل حياتهم, ويتسمُ كل ما يفعلونه بالعقم والكدر وانعدام القدرة على معرفة الخير, والذهول عمّا يمكن أن تجلبه الأخلاق الحميدة من بهجة وصلاح. فشخصياتهم غير سوية, ومواقفهم غير موزونة بموازين الخير والشر، وأكبر همهم التفكير الدائم في مصالحهم الذاتية ظانين أن بخلهم وأنانيتهم تجلب لهم منفعة دون رؤية ضرر هذا السلوك على  الناس الآخرين. وكل من يحذو حذوهم يلحق به ما لحق بهم في الدنيا والآخرة . لقد خسر الذين كفروا نعيم الجنّة, وأخطر منه  خسرانهم  رضوان الله تعالى ورحمته.
     وقد سمّى القرآن هذه  الحالة بـ "الخسران المبين":

 (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً (39) ) سورة فاطر: 39

ويستوعب أهل الإيمان هذه الدروس المؤثّرة، وهم يراقبون حال المنكرين والجاحدين. ذلك أنه لا يمكن غض الطرف عن إنسانٍ يسرق مال يتيمٍ أو ينهب أملاك شخصٍ آخر ليتمتع بها. وهذا القرآن الكريم يقدم وصفا لهم: ( فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) ) سورة الأنعام: 125

         فمثل هذا السلوك قد لا يُلاحظ بشكل واضح جلي ، ولكن يمكن لأهل البصيرة والخشية من الله أن يتبينوا هذه الصفات المنبوذة، فأولئك الناس أقلّ الإنسانية منزلة رغم امتلاكهم المال والمتاع, فهم لا يحضّون على طعام المسكين رغم حاجته, ولو حدث وفعل شيئا من الخير فعن مضض: ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) ) سورة الماعون: 1-3
وكثيراً ما نجد صوراً لمثل هؤلاء الذين أثرَوا عبر وسائلٍ لا أخلاقية وغير مشروعة, كأن تكون أموالهم قد اكتسبت عن طريق الرّشوة أو من خلال معاملات فاسدة الأخرى, فيجمعون الفوائد الظالمة, ويغتصبون مال اليتيم, ولا يُسدون لفقيرٍ أو صاحب حاجةٍ معروفا، وقد يسعون في إذلال الناس وسلبهم كرامتهم. وعندما يريدون فعل شيء من الخير تنعكس عليه ظلمة قلوبهم فتفسده وتحبطه، وهذه هي أمارات الذلّة في أجل صورها. وقد استخدم الباري سبحانه  كلمة "الذلّة" ليصف لنا مهانتهم وخذلانهم:

( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) ) سورة يونس: 26-27

إن تحلي المؤمنين بأسمى الأخلاق وأرفعها يزيدهم نضارة وبهاءً, بينما يُنزع نور الإيمان من وجوه المنكرين الجاحدين. وطبيعي أن يحاسب كل فريق على ما قدمت يداه بعد المرور بتجربة هذه الحياة، فيجازى المحسنون ويعاقب المفسدون. وكم حاول الكفّار بأساليبهم الماكرة ومواقفهم الآثمة أن يصدّوا المؤمنين عن سبيل الهدى! ولو حلّ مثلاً أحد الناس ضيفاً على بيت واحدٍ من هؤلاء الجاحدين, فإنّ أعمال المُضيف هذا لن تفلح في بعث الراحة في نفس المؤمن مهما قدم من صنوف الطعام والمآكل, فكيف لو عرف الضّيف أنّ حياة هذا الرّجل تمثلُ سلسلة من الانتهاكات لأحكام الله وأوامره.
إن الظلم الذي يوقعه باليتيم والفقير يلوّث الطعام الذي يقدّمه لضيفه. ويفضّل المؤمنون حساءً بسيطاً أعدّ من مالٍ حلالٍ على وجبة دسمةٍ أعدّت  من  مالٍ حرام. وبالمثل لو دُعيَ ضيفٌ للجلوس على أريكةٍ وقد عرف أنها اشتريت من مالٍ مشبوه فإنه يثقل عليه الجلوس عليها، بل ويشعر أن كل ما في البيت هو ثمرة استغلال للضعفاء ونهب للمال الحرام. ولو بدا كل شيءٍ في الظاهر نظيفاً أنيقاً, فلن يخطئ أنف الضيف أن يشمّ رائحة عفنة متفشية في المكان تعكس الخواء الروحي لصاحبه وتقلق الضيف وتقضّ مضجعه. سيتعرّض آكلو السحت هؤلاء و سمّاعو البهتان لمهانة دنيوية وأخروية يراها الآخرون بادية عليهم وفق ما أنبأنا به القرآن الكريم:
 (...وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) ) سورة المائدة: 41

        فمثل هؤلاء لا يذوقون للسعادة طعماً, ولا يسعد بهم مَنْْ حولهم, لإصرارهم على ارتكاب المنكر والمحرم من الأعمال, ويتجرّدون من فضيلة الحياء لإصرارهم على انتهاك حرمات الله عز وجل. واليوم ترى أناسا كثيرين من هؤلاء منغمسين في الرذيلة والفساد مستفيدين من شيوعها وكثرتها. فهؤلاء القوم انخلعوا من ربقة الإنسانية ووصلوا إلى نقطة انعدام الشرف والكرامة. وأخطر شيء أن الذين احترفوا الفاحشة من الجنسين يحاولون جاهدين أن يجرّوا غيرهم إلى حمأتها, ولكنّ الله تعالى لهم بالمرصاد، إذ يبتليهم بالأمراض التي لم تكن في أصلابهم والمصائب والحرمان والمهانة والاحتقار, وتبدو خسّتهم واضحة للآخرين.
ويعطي الله تعالى وصفاً دقيقاً لحالة هؤلاء الأشقياء في النار, يقدّمه للمؤمنين الذين عانوا ابتلاءات الحياة الدنيا وعرفوا أسرارها, فتشرق وجوههم نضارةً لعظم ما ينتظرهم من رضوان الله تعالى في الآخرة . أما أولئك الأشقياء الذين يعانون الآن الخسارة الأبدية وقد اعتزلهم أقرب الناس إليهم, فكل ما يستطيعون فعله, وقد أحاطت النيران بهم, نظرات ملؤها المهانة وهم يطلعون على المؤمنين وقد نالوا من نعم الله في دار كرامته بما لا نهاية لفضله ومدده:

( وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) ) سورة الشورى: 45


استمرار الامتحان حتى الموت
يبقى الإنسان رهن الامتحانات يكابدها حتى يوافيه الأجل. فعلى الناس أن يجعلوا كل لحظة من حياتهم منسجمة مع أوامر الله تعالى, ذاكرين جلال عظمته سبحانه ملتزمين بطاعته. وهناك أمر مهم يتعين فهمه جيدا، فلو أن كلّ من على الأرض تركوا سبيل الإيمان وكفروا بالله ما ضرّ ذلك الله تعالى مقدار ذرة، ولو أن أحدهم طيلة حياته عمل عملا صالحا، ثم تولى على عقبيه في آخر عمره ووافاه الأجل وهو على ذلك لحبط جميع عمله و لنال غضب الله عز وجلّ, فالعبرة بالخواتم.
فعلى المؤمنين أن يأخذوا حذرهم, فالشيطان عدوهم وعدو الإنسانية الأول, لن يدّخر وسعاً في استغلال أماكن ضعفهم وأوقات غفلتهم حتى لحظة رحيلهم ليغويهم عن الصراط المستقيم. ولهذا كانت لحظة الموت من أخطر اللحظات. أما أن يقول قائلٌ: أنا مؤمنٌ بالله عز وجل, وعملت ما بوسعي لنيل رضاء ربي, وقد أمنت لنفسي النجاة والخلاص، فهو في وهمٍ وغرور. والقرآن الكريم يخاطبك يا من أردتَ النجاة ألا تنقطعَ عن عبادةٍ ملؤها الخوف من الله تعالى والطمع في رحمته حتى لحظة الفراق الحاسمة:

( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) ) سورة السّجدة: 16


       وليتفكر كلّ مسلمٍ في هذا الأمر ملياًّ:
( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) ) سورة آل عمران: 106
  
الذين آمنوا ثم  ارتدّوا على أعقابهم
يُعتبر الإيمان من أعظم نعم الله على المؤمنين، فبه تتحقق السعادة والرضا في الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة، لذا وجب علينا أن نُشفعَ كل نعمةٍ أسديت إلينا بالثناء على الله سبحانه، وعلينا أن نقدر نعمة الإيمان التي هي أعظم النعم. وعلى المؤمنين الذين حفظهم الله برحمة منه أن يدعوا بهذا الدعاء الذي يردده أهل الجنة:

( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) ) سورة الأعراف: 43

ويكون الثناء على الله تعالى بالتلفظ بالشكر، والقيام بالأعمال التي يُنال بها رضوان الله تعالى. وبما أن الصلاة هي شكر على نعمة الإيمان, فعلى المؤمنين أن يؤدوها بعناية واهتمام وحضور قلب اعترافاً بجميل صنع الله لهم عاملين أقصى ما بوسعهم لنيل رضاه, متبتلين له في محراب العبودية الحقّة الصادقة. وفي المقابل, لو ظنوا خطأً أن ما هم عليه من طاعة سيوصلهم بالضرورة إلى الجنة, أو لو نسوا أنهم رهن اختبار, فربما فقدوا هذه النعمة, وهيهات أن تعود إن زالت. وقد تقسو قلوبهم, كما صرّح القرآن بذلك, ثم ينكرون خالقهم عزّ وجل, وعندها يحبط كل ما قدّموه من عملٍ ويذهب هباء منثورًا, ويكون زرعهم الذي زرعوا فسادًا وبورًا. وقد أوضح الله تعالى لنا هذه الحقيقة في أكثر من آيةٍ:
 (... وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) ) سورة البقرة: 217

( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) ) سورة الزمر: 65

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) ) سورة المائدة: 53
وأخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم كذلك عن بعض المؤمنين الذين ارتكسوا في إيمانهم بعد أن كانوا صالحين, وعن انحرافهم عن جادّة الحق بعد أن كانوا مهتدين.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) ) سورة النساء : 137


( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ (90) ) سورة آل عمران: 90
ووصف حالتهم في الدار الآخرة  كذلك بقوله:

( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) ) سورة آل عمران: 106

توضح لنا الآيات السابقة خطر ترك الإيمان واتباع طريق الهوى والضلال, فقد تجد أناسا يمضون شطر حياتهم مؤمنين بوجود الخالق عز وجل منسجمين مع أوامره, ثم تهزمهم النفس الأمارة مبعدة إياهم عن دين الله حتى يصلوا إلى درجة إنكار الخالق عز وجل, وقد يفوق جحودهم جحودَ الآخرين, ذلك لأنهم عرفوا الحقّ وعايشوه وفقاً لمراد الله تعالى ابتداءً, ثم ارتدّوا بعدها على أعقابهم فذهبت أعمالهم هباءً منثورا. لذا وجب على الناس ألا ينسوا ولو للحظة واحدة  خضوعهم للاختبار ما بقوا على وجه الأرض, وأن الابتلاءات لا حدود لها, و إلا فالشيطان لا يكفّ عن محاولات إغوائهم عن صراط ربهم المستقيم عبر سلسلة من الوعود الزائفة والشكوك المُريبة.
أما إنكار الألوهية بعد معرفة الإيمان فهو السبيل إلى الشقاء السرمدي. فالذين نبذوا الإيمان يعيشون حياة ضنك وعذابٍ روحي إلى أن توافيهم آجالهم رغم امتلاكهم أكثر أعراض الحياة الدنيا كالثروة وأسباب الراحة. وبما أنهم عرفوا الحق فهم يحاولون جاهدين كبت أي نداءٍ منبعثٍ من أعماق ضمائرهم ليبقى إحساس الإثم يحرق أرواحهم, وهيهات أن يُقارنَ ألمٌ يعانونه في هذه الحياة مع ما سيلقونه بعد الموت:

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) ) سورة آل عمران: 91

فعلى المؤمنين أن يتنبهوا ما دامت هذه الأخطار محدقة بهم،  فلا يغفلوا عنها حتى اللحظة الأخيرة من آجالهم خوفاً من الارتداد على الأعقاب . فالإحساسٌ بالطمأنينة يمنع الإنسان من التزود من العمل الصالح. والاعتقاد بأن الجنة مضمونة يدفع صاحبه إلى التقهقر والتراجع. وصف القرآن الكريم ذلك بقوله:
 ( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) )) سورة العلق: 6-7
  فاحرص أن تجعل الخطر ماثلاً بين عينيك, وقدّم من الأعمال ما يُرضي ربك عز وجل, فالرحلة مضنية والابتلاءات لا تنقطع حتى الرمق الأخير من الحياة.

الذين تخلفوا عن الجهاد وهربوا منه
هناك أناس يعيشون بإيمانٍ فطري أو بلا إيمان وكأنّ الأمور الجسام لا تعنيهم, فهم منسجمون مع مبادئ الإسلام عموماً, ولكن الله بعدله أعدّ لهم ألواناً من الابتلاءات لتظهر حقيقة معدنهم وطويتهم. فالمسلمون الذين تحمّلوا آلام الشدائد, والجوع والحاجة والمرض وفقد الممتلكات والأحباب, تقوي الابتلاءات إيمانهم وترسّخه. بينما يتقهقر الذين في قلوبهم مرض مقتربين من الكفر مع انقضاء كل دقيقة من حياتهم.
وتُبرزُ لنا هذه الحقيقة أهمية كل لحظة من حياة الإنسان, فقد يقضي بعض الناس جلّ حياتهم مؤمنين بالله تعالى, عاملين على إعلاء كلمته, مقدّمين صالح الأعمال, ولكن إذا توقفوا عن الأداء الأمثل انسجاماً مع فطرتهم السليمة, يطول عليهم الأمد, وتقسو قلوبهم وقد يفقدون ملكة التمييز بين الخير والشّر, وقد تطغى مشاغل الحياة وشؤونها على إحساسهم بضرورة متابعة العمل لنيل رضا الله عز وجل, وقد يتفاقم وضعهم فينحدرون سريعاً  نحو الجحود  والكفر.
وقد وصفت لنا العديد من الآيات جهاد الأنبياء عليهم السلام لحماية عامة المسلمين من بطش مجتمعاتهم وصوناً لدين الله عز وجل, وكان الجهاد يمثل حينها بُعداً تعبديّاً بالغ الأهمية. فرأينا كيف دخل محمد صلى الله عليه وسلم في صراع مريرٍ مع ذلك المجتمع المشرك, وكل مواجهة كانت تتم بأمرٍ من الله سبحانه, ثم يتحمّل عليه الصلاة والسلام تبعة مسؤوليتها. وسيطبع الله تعالى على قلوب أولئك النفر الذين حاولوا التملّص من مسؤولياتهم تجاه دينهم, لأن هذه الرغبة في الفرار تدلّ على  حقيقة ضعف صلتهم بالإيمان.
ويمضي كفاح المؤمنين في زماننا هذا ضد الكفرة في  ميدان الفكر, فالمطلوب من المؤمنين التعمق في العلم والبحث لدحض جميع الشبهات التي يسعى الملحدون إلى إلصاقها بالدين كوسيلة لإنكار وجود الخالق عز وجل. فكل مسلم يتحمل اليوم جزءا من المسؤولية, ولا يمكن لأي واحد اليوم أن ينأى بنفسه بعيدا وكأنّ الأمر لا يعنيه، ولا حتى أن يقف موقف الحياد. فهؤلاء الذين أبوا تحمّل المسؤولية وصفهم القرآن الكريم بأن قلوبهم قاسية: ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) ) سورة التوبة: 86-87
وهناك نموذج  آخر ممن قدّموا المعاذير عند مواجهة المشقات وأخمدوا نور الإيمان في قلوبهم وهم يحاولون الفرار من مسؤولياتهم الجهادية:

( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) ) سورة التوبة: 42

تتجلى في هذه الأمثلة المُستقاة من عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعهود من سبقوه من الأنبياء عليهم السلام أجمعين حقيقة مهمة مفادها أن سنّة الله تعالى في الاختبارات ماضية دون توقف ضمن سلسلة من الابتلاءات ليميز أهل الحقّ من المؤمنين عن أهل الضلال من المفترين. فيظهر ثبات وعزيمة المؤمنين أوقات الشدائد, ويرتكس أولئك الذين خارت قواهم مبتعدين عن جادة الحق والدين. وحدث على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما كانت المعارك محتدمة بين المسلمين والكفرة أن أظهر بعض المسلمين خوراً وضعفاً, واجتاحتهم الرّيبُ المفزعة, ظانين بالله تعالى غير الحق, ويسرع الشيطان منتهزاً فرصة ضعفهم ليبعدهم عن سبيل الحق:

( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) ) سورة آل عمران: 155

أبرزت هذه الواقعة درساً عظيماً للمؤمنين, حيث بيّن الله تعالى ضرورة تعرّض الناس للابتلاءات ليميز الخبيث من الطيب, وما من طريقة لتحمّل مشقتها سوى الإيمان الصادق الراسخ بالله سبحانه وتعالى. ومن رحمة الله بعباده المؤمنين الصادقين أنه يثبّتُ أقدامهم ويُنزلُ السكينة والرضا في قلوبهم في فترات الشدائد. ومن الضروري أن يبقى هذا الاختبار ماثلاً في ذاكرتنا, تجري سنّته على الناس جميعا ليتمايز الخبيث من الطيب:

( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) ) سورة العنكبوت: 2-3


الخاتمـة
يدنو كل إنسانٍ من لحظة أجله الحاسمة مع مرور كل دقيقة من الزمن, فمسألة السنّ ليس لها أهمية، والموت قريب من الصغار قربه من الكبار ولا فرق بينهما. فليس الموت أقرب من ابن الثامنة والستين عاماً وهو ممدد على سرير المرض, ينتظر الموت, من الفتاة ذات الثامنة عشرة ربيعاً تقطع قارعة الطريق, وكم هي كثيرة حوادث السير التي تودي بحياة الكثيرين من المارّة, وما يدريك أن تكون هذه لحظة موتها  أو موته, وهذه واحدة من أهم الحقائق وأخطرها في حياة الإنسان.
ينهمك كل إنسان في سباق حميم لقطع مراحل متعددة ومتقدمة نحو حياة الآخرة فيما قدر لهم  من فتراتٍ زمنية، هي مجمل آجالهم. وكما قال  العلامة  بديع الزمان رحمه الله تعالى: "إنّ هذه الدار الفانية هي إلا بمثابة مزرعة، وميدان تعليم". 9
فالناس في هذه الدنيا يمكن أن يعقدوا صفقات تجارية رابحة مع الله تعالى لينالوا في الآخرة عوضاً لا نهاية له. فأصحاب المنطق السليم يستمعون لنداء فطرتهم, مدركين أن لله مشيئة في دوام اختبارهم, عالمين مشقة الطريق, وكان نزول القرآن عوناً وهداية لهم, آخذين من بعثة الرسل الكرام معالم طريقهم الحق. فالذين ينيبون لربهم عز وجل بقلوب مؤمنة مخلصة سينعمون بالطمأنينة مهما واجهوا من مشقات حتى تكتب لهم النجاة. ومن الأسرار المهمة التي تفصح عنها هذه الابتلاءات  أنها مليئة بأعظم احتمالات الخير لكل المؤمنين.
فينبغي أن يكون ديدن المؤمنين الرضا بما كشف لهم من مجريات القدر, والتزام أخلاق أهل التقوى من المؤمنين كما وصفوا في القرآن الكريم, فهم متشبثون بإيمانهم بالله عز وجل, متحلين بالصبر والثبات أثناء تقدمهم نحو الحياة الآخرة الحقيقية:

( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)  ) سورة آل عمران: 146-147.

 


خديعة التـطور


إن نظرية التطور والدارونية هي نظرية ظهرت لتناهض فكرة خلق الأحياء, ولكنها لم تتجاوز حد كونها سفسطة لا تمت إلى العلم بأية صلة, إضافة إلى كونها نظرية بعيدة عن أي نجاح وانتشار. وتدعي هذه النظرية أن الحياة نشأت من مواد حية بفعل المصادفات, ولكن هذا الادعاء سرعان ما تهاوى أمام ثبوت خلق الأحياء وغير الأحياء من قبل الله عز وجل. فالذي خلق الكون ووضع فيه الموازين الدقيقة هو بلا شك الخالق الفاطر سبحانه وتعالى. ونظرية التطور لا يمكن لها أن تكون صائبة طالما تشبثت بفكرة رفض "خلق الله للكائنات " وتبني مفهوم  "المصادفة " بدلاً عنها. وبالفعل عندما تتفحص جوانب هذه النظرية من أبعادها كافة نجد أن الأدلة العلمية تفندها تفنيدا كاملا. فالتصميم الخارق الموجود في الكائنات الحية أكثر تعقيداً من الكائنات غير الحية, ومثال على ذلك  الذرات، فهي موجودة وفق موازين حساسة للغاية. ونستطيع أن نميز هذه الموازين بإجراء الأبحاث المختلفة عليها, إلا أن هذه الذرات نفسها موجودة في العالم الحي وفق ترتيب آخر أكثر تعقيداً. فهي تعد مواد أساسية  لتركيب البروتينات والأنزيمات والخلايا, وتشمل في داخلها آليات ومعايير حساسة إلى درجة مدهشة. إن هذا التصميم الخارق كان سبباً رئيساً لتفنيد مزاعم هذه النظرية بحلول نهاية القرن العشرين .

المصاعب التي هدمت الداروينية  
ظهرت هذه النظرية بصورة محددة المعالم في القرن التاسع عشر مستندة إلى التراكمات الفكرية والتي تمتد جذورها إلى الحضارة الإغريقية، ولكن الحدث الذي بلور هذه النظرية وجعل لها موطئ قدم في دنيا العلم هو صدور كتاب " أصل الأنواع" لمؤلفه تشارلز دارون. ويعارض المؤلف في كتابه فكرة خلق الكائنات الحية المختلفة من قبل الله سبحانه وتعالى, وبدلاً من ذلك يدعو إلى اعتقاده المبني على نشوء الكائنات الحية كافة من جد واحد. وبمرور الزمن ظهر الاختلاف بين الأحياء نتيجة حدوث التغيرات الطفيفة.
إن هذا الادعاء الدارويني لم يستند إلى أي دليل علمي, ولم يتجاوز كونه "جدلاً منطقياً"  وهذا باعترافه هو شخصياً, حتى أن الكتاب احتوى على باب باسم "مصاعب النظرية" تناول بصورة مطولة اعترافات داريون نفسه بوجود العديد من الأسئلة التي لم تستطع النظرية أن تجد لها الردود المناسبة, لتشكل بذلك ثغرات فكرية في بنيان النظرية.
وكان يتمنى أن يجد العلم بتطوره الردود المناسبة لهذه الأسئلة ليصبح التطور العلمي مفتاح قوة للنظرية بمرور الزمن. وهذا التمني طالما ذكره في كتبه, ولكن العلم الحديث خيب أمل دارون وفند مزاعمه واحداً بعد الآخر.
      ويمكن ذكر ثلاثة عوامل رئيسة أدت إلى انتهاء الداروينية كنظرية علمية وهي:
 1- فشلت النظرية تماماً في إيجاد تفسير علمي لكيفية ظهور الحياة لأول مرّة .
 2- عدم وجود أي دليل علمي يدعم فكرة وجود  " آليات خاصة للتطور " كوسيلة للتكيف بين
      الأحياء .
3- إن سجلات حفريات المتحجرات تبين لنا وجود مختلف الأحياء دفعة واحدة عكس ما تدعيه
     نظرية التطور.        
    وسنشرح بالتفصيل هذه العوامل الثلاثة .

أصل الحياة : الخطوة غير المسبوقة  أبداً

        تدّعي نظرية التطور أن الحياة والكائنات الحيّة بأكملها نشأت من خلية وحيدة قبل 3,8 مليار سنة. ولكن كيف يمكن لخلية واحدة أن تتحوّل إلى الملايين من أنواع الكائنات الحيّة المختلفة من حيث الشكل والتركيب, وإذا كان هذا التحول قد حدث فعلاً, فلماذا لم توجد أية متحجرات تثبت ذلك ؟ إن هذا التساؤل لم تستطع النظرية الإجابة عنه. وقبل الخوض في هذه التفاصيل يجب التوقف عند الادعاء الأول والمتمثل في تلك  "الخلية الأم"، ترى كيف ظهرت إلى الوجود ؟ تدعي النظرية أن هذه الخلية ظهرت إلى الوجود نتيجة المصادفة وحدها وفي ظل ظروف الطبيعة دون أن يكون هناك أي تأثير خارجي أو غير طبيعي, أي إنها ترفض فكرة الخلق رفضاً قاطعاً, بمعنى آخر: تدعي النظرية أن مواد غير حيّة حدثت لها بعض المصادفات أدت بالنتيجة إلى ظهور خلية حيّة, وهذا الادعاء يتنافى تماماً مع كافة القواعد العلمية المعروفة.


"الحياة  تنشأ من الحياة "
لم يتحدث تشارلز دارون أبداً عن أصل الحياة في كتابه المذكور, والسبب يتمثل في طبيعة المفاهيم العلمية التي كانت سائدة في عصره, والتي لم تتجاوز فرضية كون الأحياء من مواد بسيطة جداً. وكان العلم آنذاك ما يزال تحت تأثير نظرية "التولد الذاتي" التي كانت تفرض سيطرتها منذ القرون الوسطى, ومفادها أن مواد غير حيّة تجمّعت بالمصادفة وأنتجت مواد حيّة. وهناك بعض الحالات اليومية كانت تسوق بعض الناس إلى تبنّي هذا الاعتقاد مثل تكاثر الحشرات في فضلات الطعام, وتكاثر الفئران في مخازن الحبوب. ولإثبات هذه الادعاءات الغريبة كانت تجري بعض التجارب مثل وضع حفنة من الحبوب على قطعة قماش بالٍ, وعند الانتظار قليلاً تبدأ الفئران بالظهور حسب اعتقاد الناس في تلك الفترة .
وكانت هناك ظاهرة أخرى وهي تكاثر الدود في اللحم, فقد ساقت الناس لهذا الاعتقاد الغريب واتخذت دليلاً له, ولكن تم إثبات شيء آخر فيما بعد, وهو أن الدود يتم جلبه بواسطة الذباب الحامل ليرقاته والذي يحط على اللحم. وفي الفترة التي ألف خلالها دارون  كتابه "أصل الأنواع" كانت الفكرة السائدة عن البكتيريا أنها تنشأ من مواد غير حيّة, ولكن أثبتت التطورات العلمية بعد خمس سنوات فقط من تأليف الكتاب عدم صحة ما جاء فيه, وذلك عن طريق الأبحاث التي أجراها عالم الأحياء الفرنسي لويس باستور, ويلخص باستور نتائج أبحاثه كما يلي: "لقد أصبح الادعاء القائل بأن المواد غير الحيّة تستطيع أن تنشئ الحياة في مهب الريح" 10

      وظل المدافعون عن نظرية التطور يكافحون لمدة طويلة ضد الأدلة العلمية التي توصل إليها باستور, ولكن العلم بتطوره عبر الزمن أثبت التعقيد الذي يتصف به تركيب الخليّة, وبالتالي استحالة ظهور مثل هذا التركيب المعقد من تلقاء نفسه.

المحاولات العقيمة في القرن العشرين
لقد كان الأخصائي الروسي في علم الأحياء أليكسندر أوبارين أول من تناول موضوع أصل الحياة في القرن العشرين وأجرى أبحاثا عديدة في ثلاثينيات القرن العشرين لإثبات أن المواد غير الحيّة تستطيع إيجاد مواد حيّة عن طريق المصادفة. ولكن أبحاثه باءت بالفشل الذريع واضطر إلى أن يعترف بمرارة قائلاً "إن أصل الخلية يُعَدُّ نقطة سوداء تبتلع نظرية التطور برمتها".11
         ولم ييأس باقي العلماء من دعاة التطور, واستمروا في الطريق نفسه الذي سلكه أوبارين وأجروا أبحاثهم للتوصل لأصل الحياة, وأشهر بحث أجريَ من قبل الكيميائي الأمريكي "ستانلي ميلر" سنة 1953 حيث افترض وجود مواد ذات غازات معيّنة في الغلاف الجوي في الماضي البعيد, ووضع هذه الغازات مجتمعة في مكان واحد وجهزها بالطاقة, واستطاع أن يحصل على بعض الأحماض الأمينية التي تدخل في تركيب البروتينات .
وعدّت هذه التجربة في تلك السنوات خطوة مهمة إلى الأمام, ولكن سرعان ما ثبت فشلها, لأن المواد المستخدمة في التجربة لم تكن تمثل حقيقة المواد التي كانت موجودة في الماضي السحيق, وهذا الفشل ثبت بالتأكيد في السنوات اللاحقة .
وبعد فترة صمت طويلة اضطر ميللر نفسه إلى الاعتراف بأن المواد التي استخدمها في إجراء التجربة لم تكن تمثل حقيقة المواد التي كانت توجد في الغلاف الجوي في سالف الزمان.12
وباءت بالفشل كل التجارب التي أجراها الدارونيون طوال القرن العشرين, وهذه الحقيقة تناولها "جيفري بادا" الأخصائي في الكيمياء الجيولوجية في المعهد العالي في  سان ديغو سيكريس في مقال نشره سنة 1998 على صفحات مجلة "الأرض" ذات التوجه الدارويني. وجاء في المقال ما يلي:
       "نحن نودع القرن العشرين وما زلنا كما كنا في بدايته نواجه معضلة لم نجد لها إجابة, وهي: كيف بدأت الحياة ؟"13

 الطبيعة المعقدة للحيـاة
السبب الرئيسي الذي جعل نظرية التطور تتورط في هذه المتاهات أن هذا الموضوع العميق لأصل الحياة معقد للغاية. حتى للكائنات الحيّة البسيطة بشكل لا يصدقه العقل .
إن خلية الكائن الحي أعقد بكثير من جميع منتجات التكنولوجيا التي صنعها الإنسان في وقتنا الحاضر ولا يمكن إنتاج ولو خلية واحدة بتجميع مواد غير حيّة في أكبر المعامل المتطورة في العالم .
إن الشروط اللازمة لتكوين خليّة حيّة كثيرة جدّاً, لدرجة أنه لا يمكن شرحها بالاستناد على المصادفات إطلاقاً. غير أن احتمال تكوين تصادفي للبروتينات التي هي حجر الأساس للخليّة, على سبيل المثال: احتمالية تكوين بروتين متوسط له 500 حمض أميني و هي 10 قوة 950 تعد مستحيلة على أرض الواقع.
الذي يحفظ المعلومات الجينية في نواة الخليّة يعد بنكا هائلاً للمعلومات لا يمكن تصور ما فيه. فهذه المعلومات تمثل مكتبة تشتمل على تسع مئة مجلد. وكل مجلد عدد صفحاته خمس مئة صفحة.
وهناك أيضاً ازدواجية أخرى غريبة في هذه النقطة وهي أن الشريط الثاني لـDNA لا يمكن تكونه إلا ببعض البروتينات ( الأنزيمات )الخاصة. ولكن إنتاج هذه الأنزيمات يتم حسب المعلومات الموجودة في  د.ن.أ  فقط لارتباطها الوثيق ببعضها, فلا بد من وجودها معاً في الوقت نفسه لكي تتم الإزدواجية. فهو يؤدي إلى الوقوع في مأزق الفكرة التي تقول : إن الحياة قد وجدت من ذاتها, ويعترف بهذه الحقيقة الدارويني المعروف " ليسلي أورجيل "14 .

    إن البروتينات والحمضيات النووية  د.ن.أ / ر.ن. أ  التي تمتلك مكونات غاية في التعقيد يتم تكونها في الوقت نفسه والمكان نفسه, واحتمال تكونهما مصادفة عملية غير مقبولة تماماً, فلا يمكن إنتاج أحدهما دون أن يكون الآخر موجودا, وبذلك يكون الإنسان مضطرًا إلى الوصول إلى نتيجة وهي استحالة ظهور الحياة بطرق كيميائية.
إن كان ظهور الحياة بطريق المصادفة مستحيلاً فيجب أن نعترف بخلق الحياة بشكل خارق للطبيعة, هذه الحقيقة تبطل نظرية التطور التي بنت كل مقوماتها على أساس إنكار الخلق.

الآليات الخيالية لنظرية التطور
القضية الثانية التي كانت سبباً في نسف نظرية دارون كانت تدور حول "آليات التطور"، فهذا الادعاء لم يثبت في أي مكان في دنيا العلم لعدم صحته علمياً ولعدم احتوائه على قابلية التطوير الحيوي. وحسب ادعاء دارون فإن التطور حدث نتيجة  "الانتخاب الطبيعي" وأعطى أهمية استثنائية لهذا الادعاء, وهذا الاهتمام من قبله يتضح من اسم الكتاب الذي سماه "أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي". إن مفهوم الانتخاب الطبيعي يستند إلى مبدإ بقاء الكائنات الحيّة التي تظهر قوة وملاءمة تجاه الظروف الطبيعية. فعلى سبيل المثال: لو هدّد قطيع من الغزال من قبل الحيوانات المفترسة فإن الغزالة الأسرع في العدو هي التي تستطيع البقاء على قيد الحياة. وهكذا يبقى القطيع متألفاً من أفراد أقوياء سريعين في العدو. ولكن هذه الآلية لا تكفي أن تطور الغزال من شكل إلى آخر, كأن تحولها إلى خيول مثلاً. لهذا السبب لا يمكن تبني فكرة "الانتخاب الطبيعي" كوسيلة للتطور. وحتى دارون نفسه كان يعلم ذلك وذكره ضمن كتابه "أصل الأنواع" على النحو التالي: " طالما لم تظهر تغييرات إيجابية  فإن الانتخاب الطبيعي لا يفي بالغرض المطلوب " 15.
     
تأثير  لامارك
    والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف كانت ستحدث هذه  التغيرات الإيجابية ؟ أجاب دارون على هذا السؤال استناداً إلى أفكار من سبقوه من رجالات عصره مثل لامارك . ولامارك عالم أحياء فرنسي عاش ومات قبل دارون بسنوات كان يدّعي أن الأحياء تكتسب تغيرات معيّنة تورثها إلى الأجيال اللاحقة. وكلما تراكمت هذه التغيرات جيلاً بعد جيل أدت إلى ظهور أنواع جديدة, وحسب ادعائه فإن الزرافات نشأت من غزلان نتيجة محاولتها للتغذي على أوراق الأشجار العالية عبر أحقاب طويلة . وأعطى دارون أمثلة مشابهة في كتابه "أصل الأنواع"، فقد ادعى أن الحيتان أصلها قادم من الدببة التي كانت تتغذى على الكائنات المائية، وكانت مضطرة للنزول إلى الماء بين الحين والآخر. 16
إلا أن قوانين الوراثة التي اكتشفها  مندل  والتطور الذي طرأ على علم الجينات في القرن العشرين أدى إلى نهاية الأسطورة القائلة بانتقال الصفات المكتسبة من جيل إلى أخر، وهكذا ظلت  "آلية الانتخاب الطبيعي" آلية غير ذات فائدة أو تأثير من وجهة نظر العلم الحديث.

الدارونية الحديثة والطفرات الوراثية
        قام الدارونيون بتجميع جهودهم أمام المعضلات الفكرية التي واجهوها خصوصاً في ثلاثينيات القرن العشرين وساقوا نظرية جديدة أسموها بـ "نظرية التكوّن الحديث" أو ما عرف بـ "الدارونية الحديثة"، وحسب هذه النظرية الحديثة فهناك عامل آخر له تأثير تطوري إلى جانب الانتخاب الطبيعي. وهذا العامل يتلخص في  حصول طفرات وراثية أو جينية تكفي سبباً لحدوث تلك التغيرات الإيجابية المطلوبة . وهذه الطفرات تحدث إما بسبب التعرض للإشعاعات أو نتيجة خطأ في الاستنساخ الوراثي للجينات .
وهذه النظرية لا زالت تدافع عن التطور لدى الأحياء تحت اسم الدارونية الحديثة. وتدّعي هذه النظرية أن الأعضاء والتراكيب الجسمية الموجودة لدى الأحياء والمعقّدة التركيب كالعين والأذن أو الكبد والجناح ...الخ  لم تظهر أو تتشكل إلا بتأثير حدوث طفرات وراثية أو حدوث تغييرات في تركيب الجينات, ولكن هذا الادعاء يواجه مطباً علمياً حقيقياً, وهو أن الطفرات الوراثية دائماً تشكل عامل ضرر على الأحياء ولم تكن ذات فائدة في يوم من الأيام .
وسبب ذلك واضح جداً  فإن جزيئات الـ  "د.ن.أ" معقدة التركيب للغاية. وأي تغيير جزيئي عشوائي مهما كان طفيفاً لا بد أن يكون له أثر سلبي, وهذه الحقيقة العلمية يعبّر عنها  ب. ج. رانكاناثان  الأمريكي المتخصص في علم الجينات كما يلي: "إن الطفرات الوراثية تتسم بالصغر والعشوائية والضرر, ولا تحدث إلا نادراً وتكون غير ذات تأثير في أحسن الأحوال. إن هذه الخصائص العامة الثلاث توضح أن الطفرات لا يمكن أن تلعب دوراً في إحداث التطوّر, خصوصاً أن أي تغيير عشوائي في الجسم المعقد لا بدّ له أن يكون إما ضاراً أو غير مؤثر, فمثلاً أي تغيير عشوائي في ساعة اليد لا يؤدي إلى تطويرها, بل الاحتمال الأكبر أن يؤدي إلحاق الضرر بها  أو أن يصبح غير مؤثر بالمرة."17  
وهذا ما حصل فعلاً, لأنه لم يثبت إلى اليوم وجود طفرة وراثية تؤدي إلى تحسين البنية الجينية للكائن الحيّ , والشواهد العلمية أثبتت ضرر جميع الطفرات الحاصلة. وهكذا يتضح أن هذه الطفرات التي سيقت باعتبارها سبباً لتطور الأحياء من قبل الدارونية الحديثة تمثل وسيلة تخريبية التأثير على الأحياء. وأفضل مثال للطفرة الوراثية الحاصلة لجسم الإنسان هو الإصابة بمرض السرطان, ولا يمكن والحال كذلك أن تصبح الطفرات الوراثية ذات التأثير الضار آلية معتمدة علمياً لتفسير عملية التطور. أما آلية الانتخاب الطبيعي فهي بدورها لا يمكن أن تكون مؤثرة لوحدها فقط حسب اعترافات دارون نفسه , وبالتالي لا يمكن أن يوجد مفهوم يدعى بـ "التطور"، أي أن عملية التطور لدى الأحياء لم تحدث على الإطلاق.

سجلات المتحجرات : لا أثر للحلقات الوسطى
تُعدّ سجلات المتحجرات أفضل دليل على عدم حدوث أي من السيناريوهات التي تدعيها نظرية التطور, فهذه النظرية تدعي أن الكائنات الحيّة مختلفة الأنواع نشأ بعضها من البعض الآخر. فنوع معين من الكائنات الحية من الممكن أن يتحوّل إلى نوع آخر بمرور الزمن وبهذه الوسيلة ظهرت الأنواع المختلفة من الأنواع, وحسب النظرية فإن هذا التحول النوعي استغرق مئات الملايين من السنين واستناداً إلى هذا الادعاء يجب وجود حلقات وسطى (انتقالية )  طوال فترة حصول التحول النوعي في الأحياء .
          على سبيل المثال: يجب وجود كائنات تحمل صفات مشتركة من الزواحف والأسماك ,لأنها في البداية كانت مخلوقات مائية تعيش في الماء وتحولت بالتدريج إلى زواحف,أو يفترض وجود كائنات ذات صفات مشتركة من الطيور والزواحف ,لأنها في البداية كانت زواحف ثم تحولت إلى طيور, ولكون هذه المخلوقات الافتراضية قد عاشت في فترة تحول فلا بد أن تكون ذات قصور خلقي أو مصابة بإعاقة أو تشوه ما ,ويطلق دعاة التطور على هذه الكائنات الإنتقالية أسم "الأشكال الإنتقالية".
ولو افترضنا أن هذه "الأشكال البينية" قد عاشت فعلاً في الحقب التاريخية, فلا بد أنها وجدت بأعداد كبيرة وأنواع كثيرة تقدر بالملايين بل بالمليارات, وكان لا بد أن تترك أثراً بالمتحجرات المكتشفة ,ويعبر دارون عن هذه الحقيقة في كتابه "إذا صحت نظريتي فلا بد أن تكون هذه الكائنات الحية العجيبة قد عاشت في مدة ما على سطح الأرض ...وأحسن دليل على وجودها هو اكتشاف متحجرات ضمن الحفريات .18
خيبة  آمال  دارون 
أجريت حفريات وتنقيبات كثيرة جداً منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى الآن, ولكن لم يعثر على أي أثر لهذه "الأشكال الانتقالية"، وقد أثبتت المتحجرات التي تم الحصول عليها نتيجة الحفريات عكس ما كان يتوقعه الداروينيون, من أن جميع الأحياء بمختلف أنواعها قد ظهرت إلى الوجود فجأة وعلى أكمل صورة. وقد اعترف بهذه الحقيقة أحد غلاة الداروينية وهو ديبيك وايكر الأخصائي البريطاني في علم المتحجرات قائلاً: "إن مشكلتنا الحقيقية هي حصولنا على كائنات حية كاملة, سواء كان ذلك على مستوى الأنواع أو الأصناف عند تفحصنا للمتحجرات المكتشفة, وهذه الحالة واجهتنا دوماً دون العثور على أيّ أثر لتلك المخلوقات المتطورة تدريجياً. 19
أي إنّ المتحجرات تثبت لنا ظهور جميع الأحياء فجأة دون أي وجود للأشكال الانتقالية نظرياً. وهذا طبعاً عكس ما ذهب إليه دارون, وهذا تعبير عن كون هذه الكائنات الحيّة مخلوقة, لأن التفسير الوحيد لظهور كائن حي فجأة دون أن يكون له جدّ معين هو أن يكون مخلوقاً, وهذه الحقيقة قد قبلها عالم أحياء مشهور مثل دوغلاس فوتويما.
   "إن الخلق والتطور مفهومان أو تفسيران سائدان في دنيا العلم لتفسير وجود الأحياء, فالأحياء إما وجدت فجأة على وجه البسيطة على أكمل صورة أو لم تكن كذلك, أي أنها ظهرت نتيجة تطورها عن أنواع أو أجداد سبقتها في الوجود. وإن كانت ظهرت فجأة وبصورة كاملة الشكل والتكوين فلا بد من قوة لا حد لها وعقل محيط بكل شيء أوجدا مثل هذه الكائنات الحيّة" .20
        فالمتحجرات تثبت أن الكائنات الحيّة قد ظهرت فجأة على وجه الأرض وعلى أحسن شكل وتكوين، أي إن أصل الأنواع هو الخلق وليس التطور كما كان يعتقد دارون.
أسطورة  تطور  الإنسان
إن من أهم الموضوعات المطروحة للنقاش ضمن نظرية التطور هو بلا شك أصل الإنسان, وفي هذا المجال تدعي الداروينية بأن الإنسان الحالي نشأ متطوراً من كائنات حية شبيهة بالقرد عاشت في الماضي السحيق, وفترة التطور بدأت قبل 4-5 ملايين سنة, وتدعي النظرية وجود بعض الأشكال الانتقالية خلال الفترة المذكورة, وحسب هذا الادعاء الخيالي هناك أربعة مجموعات رئيسية ضمن عملية تطور الإنسان وهي:
1- أوسترالوبيثيكوس
2- هوموهابيليس
3- هوموإريكتوس
4- هوموسابينس
يطلق دعاة التطور على الحد الأعلى للإنسان الحالي اسم "أوسترالوبيليكوس" أو قرد الجنوب, ولكن هذه المخلوقات ليست سوى نوع منقرض من أنواع القرود المختلفة, وقد أثبتت الأبحاث التي أجراها كل من الأمريكي البروفيسور تشارلس أوكسنارد والبريطاني اللورد سوللي زاخرمان  - وكلاهما من أشهر العلماء التشريح – أنه لا علاقة البتة بين الإنسان وبين هذه القرود المنقرضة.21
أطلق الداروينيون اسم "هومو" أو الإنسان على هذه القرود، وفي كافة مراحل الـ"هومو" أصبح الكائن الحي الأكثر تطوراًمن قرد الجنوب, ويتشبث الداروينيون بوضع المتحجرات الخاصة بهذه الأنواع المنقرضة كدليل على صحة نظريتهم وتأكيداً على وجود مثل هذا الجدول التطوري الخيالي، غير أن هذا القصور في التفكير اعترف به أحد دعاة نظرية التطور في القرن العشرين وهو آرنست مير قائلاً : "إن السلسلة الممتدة إلى "هومو سابينس" منقطعة الحلقات" 22
     وهناك سلسلة يحاول الدارونيون إثبات صحتها تتكون من قرد الجنوب "اوسترالوبيثيكوس" و "هومو هابيليس" و "هومواريكتوس" و"هوموسابينس"، أي أن أقدمهم يعد جداً للذي يليه. ولكن الاكتشافات التي عثر عليها علماء المتحجرات أثبتت أن قرد الجنوب و"هومو هابيلس" و"هومو اريكتوس قد وجد في أماكن مختلفة وفي الفترة الزمنية نفسها23.
والأبعد من ذلك هو وجود أنواع من "هومو اريكتوس" قد عاشت حتى فترات حديثة نسبياً ووجدت جنباً إلى جنب مع "هومو سابيس" و"ثياندرتالينس" و"هوموسابينس"، أي الإنسان الحالي.24 
وهذه الاكتشافات أثبتت عدم صحة كون أحدهما جداً للآخر, وأمام هذا المأزق الفكري الذي واجهته نظرية داروين في التطور يقول أحد دعاتها وهو ستيفين جي كولد الأخصائي في علم المتحجرات في جامعة هارفرد  ما  يلي:
      "إذا كانت ثلاثة أنواع شبيهة بالإنسان قد عاشت في الحقبة الزمنية نفسها, إذن ماذا حصل لشجرة أصل الإنسان ؟ الواضح أنه لا أحد من بينها يعد جداً للآخر, والأبعد من ذلك هو أنه عند إجراء مقارنة بين بعضها وبعض لم يتم التوصل من خلالها إلى أية علاقة تطورية فيما بينها.25
إن اختلاق قصة خيالية عن تطور الإنسان والتأكيد عليها إعلامياً وتعليمياً والترويج لنوع منقرض من الكائن الحي نصفه قرد ونصفه الآخر إنسان هو عمل لا يستند إلى أي دليل علمي. وقد أجرى اللورد سوللي زاخرمان البريطاني أبحاثه على متحجرات قرد الجنوب لمدة 15 سنة متواصلة ، وقد توصل إلى عدم وجود أية سلسلة متصلة بين الكائنات الشبيه بالقرد وبين الإنسان واعترف بهذه النتيجة على الرغم من كونه دارويني الاتجاه.
ولكنه من جهة أخرى قام بتأليف جدول خاص بالفروع العلمية التي يعترف بها وضمنه مواقع لأمور خارجة عن نطاق العلم, وحسب جدول زاخرمان تشمل الفروع العلمية التي تستند إلى أدلة مادية علوم الفيزياء والكيمياء وتليها علوم الأحياء فالعلوم الاجتماعية وأخيراً - أي في آخر الجدول - تأتي فروع المعرفة الخارجة عن نطاق العلم. ووضع في هذا الجزء من الجدول علم  تبادل الخواطر والحاسة السادسة والشعور والتحسس، وأخيرا تطور الإنسان. ويضيف زاخرمان تعليقاً على هذه المادة الأخيرة في الجدول كما يلي:
"عند انتقالنا من العلوم الماديّة إلى الفروع التي تمت بصلة إلى علم الأحياء النائي أو الاستشعار عن بعد, وحتى استنباط تاريخ الإنسان بواسطة المتحجرات, نجد أن كل شيء جائز وممكن خصوصاً بالنسبة إلى المرء المؤمن بنظرية التطور, حتى إنه يضطر أن يتقبّل الفرضيات المتضادة أو المتضاربة في آن واحد"26
   إذن: إنّ القصة الملفقة لتطور الإنسان تمثل إيماناً أعمى من قبل بعض الناس بالتأويلات غير المنطقية لأصل بعض المتحجرات المكتشفة.

عقيدة ماديّـة
لقد استعرضنا النظرية الخاصة بالتطور, ومدى تناقضها مع الأدلة والشواهد العلمية, ومدى تناقض فكرها المتعلق بأصل الحياة مع القواعد العلمية, واستعرضنا أيضاً انعدام التأثير التطوري لكافة آليات التطور التي تدعو إليها هذه النظرية, وانعدام وجود أية آثار لمتحجرات تثبت وجود أشكال انتقالية للحياة عبر التاريخ. لهذا السبب نتوصل إلى نتيجة مفادها ضرورة التخلي عن التشبث بالنظرية التي تعد متناقضة مع قواعد العلم والعقل, وهي لا بد أن تنتهي كما انتهت نظريات أخرى عبر التاريخ والتي ادعت بعضها أن الأرض مركز الكون. ولكن الغريب أن هناك إصراراً عجيباً على التشبث بهذه النظرية في واجهة الأحداث العلمية, وهناك بعضهم يتمادى في تزمته ويتهم أي نقد للنظرية بأنه هجوم على العلم والعلماء.  
        والسبب يكمن في تبني بعض الجهات لهذه النظرية واستخدامها كوسيلة للتلقين الفكري, وهذه الجهات تتبنى الفكر المادي عقيدة لها, بل هي متصلة بالفكر المادي  اتصالاً أعمى وتعد الداروينية خير ملاذ فكري لها لترويج  فكرها المادي البحت. وأحياناً تعترف هذه الجهات بالحقيقة السابقة, كما يقول ريتشرد ليونتن أحد أشهر الباحثين في علم الجينات والذي يعمل في جامعة هارفارد, وهو من المدافعين الشرسين عن نظرية التطور، ويعد نفسه رجل علم مادي: "نحن نؤمن بالمادية, ونؤمن بأشياء مسلم بها مسبقاً, وهذا الإيمان هو الذي يجعلنا نوجد تفسيرات مادية للظواهر الدنيوية وليس قواعد العلم ومبادئه. وإيماننا المطلق بالمادية هو سبب دعمنا اللامحدود لكل الأبحاث الجارية لإيجاد تفسيرات ماديًة لجميع الظواهر التي توجد في عالمنا, ولكون المادية صحيحة مسلم بها فلا يمكن أبداً أن نسمح للتفسيرات الإلهية  أن تقفز إلى واجهة  الأحداث" 27
إن هذه الكلمات تعكس حجم النزعة التلقينية التي تتسم بها الداروينية لمجرد كونها مترابطة ترابطاً فلسفياً بالنظرية المادية. ويرى غلاة هذه النظرية أن لا شيء فوق المادة, ولهذا السبب يؤمنون بأن المواد غير الحية هي سبب وجود المواد الحيّة, أي أنّ الملايين من الأنواع المختلفة كالطيور والأسماك والزرافات والنمور والحشرات والأشجار والزهور والحيتان وحتى الإنسان ليست إلا نتاجاً للتحول الداخلي الذي طرأ على المادة كالمطر المنهمر والرعد والصواعق.
        والواقع أن هذا الاعتقاد يتعارض تماماً مع قواعد العقل والعلم, إلا أن الداروينيين ما زالوا يدافعون عن آرائهم خدمة لأهدافهم التي تلخصها الكلمات التالية: "لا يمكن أبداً أن نسمح للتفسيرات الإلهية بأن تقفز إلى واجهة الأحداث"28.
         وكل إنسان ينظر إلى موضوع أصل الأحياء من وجهة نظر غير مادية لا بد له أن يرى الحقيقة الساطعة كالشمس, إن جميع الكائنات الحية قد وجدت بتأثير قوّة لا متناهية وعقل لا حد له, أي أنها خلقت من قبل خالق عليم قدير أحاط علمه بكل شيء ووسعت قدرته السماوات والأرض، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
( قَالُوا  سُبْحَانَكَ  لاَ  عِلْمَ  لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا
إِنَّكَ  أَنْتَ العَلِيـمُ  الحَكِيـمُ ) البقرة: 32

المراجــع
1- كليات رسائل النور، الكلمات، ص. 277.
2-  كليات رسائل النور، الكلمات، ص. 126-127.
3- كليات رسائل النور، الكلمات، ص. 765.
4-كليات رسائل النور، قصة حياة، ص. 198.
5- كليات رسائل النور، اللمعات، ص. 10
6- كليات رسائل النور، المكتوبات، ص. 43- 44.
7-  كليات رسائل النور، بديع الزمان يجيب، ص. 215- 216.
8- كليات رسائل النور، الشعاعات، ص. ص. 522.
9-  كليات رسائل النور، الكلمات، ص. 834.

Imam Ahmad, vol. 1, no. 387; Imam Ibn Kathir, The Life of This World is Fleeting Enjoyment -10

 Bediuzzaman Said Nursi, Risale-i Nur Collection, The Words, The Tenth Word, Twelfth Aspect -11
Sidney Fox, Klaus Dose, Molecular Evolution and The Origin of Life, W.H. Freeman and Company, San Francisco, 1972, p. 4. -12
  Alexander I. Oparin, Origin of Life, Dover Publications, NewYork, 1936, 1953 (reprint), p. 196. -13
 "New Evidence on Evolution of Early Atmosphere and Life", Bulletin of the American Meteorological Society, vol 63, November 1982, p. 1328-1330. -14
  Stanley Miller, Molecular Evolution of Life: Current Status of the Prebiotic Synthesis of Small Molecules, 1986, p. 7. -15
 Jeffrey Bada, Earth, February 1998, p. 40. -16
 Leslie E. Orgel, "The Origin of Life on Earth", Scientific American, vol. 271, October 1994, p. 78. -17
 Charles Darwin, The Origin of Species by Means of Natural Selection, The Modern Library, New York, p. 127. -18
 Charles Darwin, The Origin of Species: A Facsimile of the First Edition, Harvard University Press, 1964, p. 184. -19
 B. G. Ranganathan, Origins?, Pennsylvania: The Banner Of Truth Trust, 1988, p. 7. -20
 Charles Darwin, The Origin of Species: A Facsimile of the First Edition, Harvard University Press, 1964, p. 179. -21
 Derek A. Ager, "The Nature of the Fossil Record", Proceedings of the British Geological Association, vol 87, 1976, p. 133. -22
 Douglas J. Futuyma, Science on Trial, Pantheon Books, New York, 1983. p. 197. -23
 Solly Zuckerman, Beyond The Ivory Tower, Toplinger Publications, New York, 1970, pp. 75-14; Charles E. Oxnard, "The Place of Australopithecines in Human Evolution: Grounds for Doubt", Nature, vol 258, p. 389. -24
 "Could science be brought to an end by scientists' belief that they have final answers or by society's reluctance to pay the bills?" Scientific American, December 1992, p. 20. -25
 Alan Walker, Science, vol. 207, 7 March 1980, p. 1103; A. J. Kelso, Physical Antropology, 1st ed., J. B. Lipincott Co., New York, 1970, p. 221; M. D. Leakey, Olduvai Gorge, vol. 3, Cambridge University Press, Cambridge, 1971, p. 272. -26
 Jeffrey Kluger, "Not So Extinct After All: The Primitive Homo Erectus May Have Survived Long Enough To Coexist With Modern Humans", Time, 23 December 1996. -27
. S. J. Gould, Natural History, vol. 85, 1976, p. 30. -28
 Solly Zuckerman, Beyond The Ivory Tower, p. 19. -29
. Richard Lewontin, "The Demon-Haunted World," The New York Review of Books, January 9, 1997, p. 28. -30
 Malcolm Muggeridge, The End of Christendom, Grand Rapids:Eerdmans, 1980, p. 43. -31

        

     



   











 







































  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Subscribe via email

Enter your email address:

Delivered by FeedBurner